من الدولة القومية إلى الدين القومي

89

أيمن روج

شهد التاريخ السياسي الحديث تحولات جذرية في شكل تنظيم المجتمعات البشرية، أبرزها التحول من الإمبراطوريات الدينية أو الملكيات التقليدية إلى ما يُعرف بـ ”الدولة القومية”. ورغم أن هذه الصيغة من الحكم أحدثت تغييرات في حياة الشعوب، إلا أنها لم تكن خالية من التحديات والمآخذ، مما مهّد الطريق لظهور نماذج أخرى من التنظيم الأيديولوجي، من بينها ما يُعرف بـ”الدين القومي”، وهو مفهوم معاصر بدأ يبرز بوصفه بديلاً أو منافساً للدين التقليدي، يتخذ من الدولة ومؤسساتها رموزاً مقدسة تستحق الولاء المطلق.

الدولة القومية هي شكل من أشكال التنظيم السياسي الحديث، يقوم على وحدة الأمة والدولة. أي أن سكان الدولة يشكلون أمة واحدة تربطهم عناصر مشتركة مثل اللغة، الثقافة، التاريخ، العرق (أحيانًا)، أو الانتماء السياسي، والدولة تمثل الإطار القانوني والمؤسساتي لهذه الأمة.

بمعنى آخر، في الدولة القومية تتطابق حدود الدولة السياسية مع حدود الأمة القومية، في مقابل الإمبراطوريات القديمة التي كانت متعددة الأعراق والأديان.وقد بدأت فكرة الدولة القومية في التبلور في أوروبا الغربية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، لكنها لم تتخذ شكلها الكامل إلا بعد الثورة الفرنسية (1789) التي رسّخت مفاهيم السيادة الشعبية، والمواطنة، والانتماء القومي بدلاً من الولاء للدين أو العائلة المالكة، ومن أبرز المحطات التاريخية لنشوء الدولة القومية:

      ـصلح وستفاليا (1648): أنهى الحروب الدينية في أوروبا، وأقر بمبدأ سيادة الدول، وهو ما يُعد البداية القانونية لفكرة الدولة الحديثة.

      والثورة الفرنسية (1789): أعلت من شأن الأمة والشعب كمصدر للشرعية السياسية، وأسهمت في نشر القومية في أوروبا.

      وتوحيد ألمانيا وإيطاليا في القرن التاسع عشر: مثّلت تتويجاً للفكر القومي في أوربا ومن أبرز المفكرين الذين أسهموا في ترسيخ مفهوم الدولة القومية:

  • جان جاك روسو: دعا إلى أن الشعب هو مصدر السلطة.
  • يوهان غوتفريد هيردر: شدد على أهمية اللغة والثقافة في تكوين الشعور القومي.
  • إرنست رينان: رأى أن الأمة تقوم على “رغبة العيش المشترك”، لا فقط على أساس العرق أو الدين.

ومن أبرز الدول القومية فرنسا أول نموذج للدولة القومية الحديثة.

  • ألمانيا بعد التوحيد عام 1871، أصبحت مثالاً على الدولة التي تجمع شتات الشعوب الألمانية.

      إيطاليا: توحدت عام 1861 على أساس قومي.

      اليابان: رغم خصوصيتها، تعتبر من أكثر الدول تجانساً قومياً.

  • دول العالم العربي: ظهرت دول قومية بعد الاستعمار (مثل العراق، مصر، سوريا)، لكن بدرجات متفاوتة من الانسجام القومي ومن مساوئ الدولة القومية:

      الإقصاء والتهميش: كثير من الدول القومية همشت أو قمعت الأقليات العرقية أو الدينية، والعداء للأمم الأخرى القومية المتطرفة أدت إلى صراعات مثل الحربين العالميتين.

      وتقديس الدولة أفضى إلى أشكال من الشمولية والقمع باسم حماية “الأمة”.

      وانفصال القومية عن الدين أدى في بعض الحالات إلى صراع بين الدين والدولة، خاصة في الدول الإسلامية، أما الدين القومي هو مفهوم حديث نسبياً يشير إلى حالة يتم فيها استبدال الدين التقليدي (الإسلام، المسيحية، إلخ) بمجموعة من القيم والمعتقدات والممارسات التي تدور حول “الدولة” أو “القومية” أو “الزعيم”، بحيث تتحول الدولة نفسها إلى ما يشبه الكيان المقدّس الذي يُفترض الإيمان به وطاعته.

هذا “الدين” لا يقوم على الوحي أو العقائد الإلهية، بل على أيديولوجيات بشرية (كالقومية أو الشيوعية أو الليبرالية المتطرفة) يتم التعامل معها وكأنها مقدّسة.

وقد بدأت ملامح الدين القومي تتشكل بوضوح بعد الحرب العالمية الأولى، ثم ترسخت أكثر خلال القرن العشرين، خاصة مع ظهور الأنظمة الشمولية (الفاشية، النازية، الشيوعية) التي استبدلت الدين التقليدي بأيديولوجيا قومية أو حزبية.

في العالم العربي، برز الدين القومي مع صعود التيارات القومية (مثل القومية العربية) بعد الاستعمار، التي رأت في الدين عنصراً ثانوياً أمام القومية أو الاشتراكية.

ولا يوجد مؤسس واحد للدين القومي، لكنه نتاج تطورات فكرية وسياسية متشابكة. ومن أبرز الشخصيات التي أسهمت في تأصيله:

  • هيغل: رأى أن الدولة هي تجلّي الروح المطلق، وبهذا منحها طابعاً شبه ديني.
  • ماركس: رغم نقده للدين، فإن الماركسية نفسها تحولت لدى أتباعها إلى ما يشبه العقيدة الدينية.
  • القوميون العرب (مثل ساطع الحصري): قدّموا “الأمة العربية” ككيان مقدس يتجاوز الأديان والمذاهب. ومن ملامح الدين القومي
  • تقديس الزعيم أو الدولة أو الراية الوطنية.
  • طقوس رمزية أشبه بالعبادات (النشيد الوطني، رفع العلم، الشعارات الثورية).
  • إقصاء أو تهميش الدين التقليدي لصالح “الدين الوطني”.
  • تحويل السياسة إلى ميدان تعبّدي يحرم الخروج عليه. ومن مساوئ الدين القومي:

      الإلغاء التدريجي للدين التقليدي: مما يؤدي إلى فقدان القيم الروحية والأخلاقية.

      والقمع باسم الوحدة الوطنية: تُستغل فكرة “مصلحة الأمة” لقمع الحريات.

      التلاعب بالعواطف الجماعية: الدين القومي يستغل الرموز والهوية لتمرير سياسات قد تكون ظالمة أو فاسدة.

      وإغلاق المجال أمام النقد: لأن مخالفة “الدين القومي” تعتبر خيانة، وليست مجرد رأي .

ومن أبرز البدائل للدولة القومية والدين القومي :

الديمقراطية التشاركية:

نموذج يقوم على احترام التنوع الديني والثقافي والعرقي داخل الدولة الواحدة، دون فرض هوية قومية واحدة، ودون تقديس الدولة أو القومية.

وتقوم على أسس سيادة القانون والفصل بين السلطات وحقوق الإنسان والمواطنة المتساوية وحماية الحريات الدينية والثقافية ويتجاوز القومية الضيقة، يحترم الدين دون أن يجعل منه أداة للسلطة ويعطي مكاناً للهوية الجماعية ضمن إطار المواطنة. وهناك تحديات حيث تتطلب وعياً سياسياً ونضجاً شعبياً. صعب في المجتمعات التي لم تتصالح أو التي لا تعرف معنى الديمقراطية

واللا-دولة أو المجتمع اللامركزي .

يرفض الدولة بوصفها أداة قهر، ويقترح بديلاً على شكل مجتمعات محلية متعاونة ذات إدارة ذاتية والتي تتميز بأقصى درجات الحرية الفردية، حيث لا مكان فيه للقومية أو تقديس السلطة.

فالدولة المدنية عادلة، تستند إلى مرجعية أخلاقية أو دينية، وتحترم التعدد، وتمنع تقديس الدولة أو القومية، وتعزز قيمة الإنسان فوق كل انتماء.

التعليقات مغلقة.