اللامركزية السياسية: فرصة سوريا الأخيرة لعقد اجتماعي ينقذ وحدة الدولة

29

سركيس قصارجيان

منذ أكثر من عقد، تعيش سوريا تفككا سياسياً-اجتماعياً مركّباً تتجاوز تأثيراته الناحية الأمنية لتهدد مستقبل التماسك الاجتماعي في البلاد في ظل انعدام العقد الجامع بعد النزاع الدموي متعدد الأطراف والمصالح الذي دمّرت البلاد اقتصادياً وبنوياً.

ومع دخول البلاد مرحلة جديدة من النقاشات السياسية حول الدستور، ومستقبل الحكم، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، تبرز اللامركزية السياسية بوصفها أهم الحلول الجوهرية لتجاوز هذه الأزمة، وإنقاذ سوريا من إعادة إنتاج المركزية الاستبدادية التي كانت من أبرز أسباب الانفجار عام 2011.

وفي ظل تعثر جهود التسوية بفعل التجاذبات الإقليمية والدولية الحسابات المحلّية الضيقة، تتشكل قناعة متنامية لدى فئة كبيرة من السوريين، مفادها أن العودة إلى النظام المركزي باتت غير ممكنة وخطيرة على وحدة البلاد واستقرارها. فهل يمكن أن تمثل اللامركزية نموذجاً واقعياً للخروج من المأزق؟ وهل تنجح في استيعاب التعدد الهوياتي والجغرافي والاجتماعي في سوريا، دون أن تُستخدم بوصفها مدخلًا للتقسيم كما يخشى البعض؟

من المركزية إلى الفوضى: تاريخ مأزوم

منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة، اعتمدت السلطات المتعاقبة في دمشق نموذجاً مركزياً صارماً في الحكم، تم تعزيزه وتوسيعه مع صعود حزب البعث عام 1963، ثم تحوّل إلى نمط قمعي في عهد حافظ الأسد توسّع لاحقاً في عهد وريثه بشار الأسد.

تركزت معظم القرارات السياسية، والتعيينات الإدارية، وتوزيع الموارد في العاصمة مقابل تهميش الأطراف، خصوصاً المناطق الكردية والريفية، وكرّس شعوراً دائماً بالظلم والإقصاء لدى مكونات عديدة.

هذا التهميش البنيوي لم يقتصر على التقسيمات الجغرافيا، بل شمل قطاعات واسعة من الشباب، خصوصاً في المحافظات المحرومة تنموياً، ممن وجدوا أنفسهم غرباء عن مراكز اتخاذ القرار، محرومين من فرص المشاركة في الشأن العام، ومجبرين على التعايش مع شبكات فساد ومحسوبيات تهندس لهم رغباتهم المهنية وخططهم المستقبلية، ضمنهم العلويون، الذين تم اقناع فئات واسعة منهم بأنهم ممسكون بالدولة ومتحكّمون بزمامها، ما جعل هذه الفئات في طليعة الرافضين لأي شكل من أشكال اللامركزية حتى تاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر.

الحرب… وانكشاف هشاشة المركز

كشفت الحرب السورية عن مدى هشاشة الدولة المركزية، التي سرعان ما فقدت سيطرتها على أجزاء واسعة من البلاد، وتهاوت شعارات الوحدة الوطنية والهوية القوميّة التي شكلت عماد أيديولوجيا حزب البعث وركيزته في الاستمرار في السلطة، أمام خطاب عرقي طائفي حول الصراع المسلّح إلى واحدة من أكثر الحروب الأهلية دموية في تاريه المنطقة.

في هذا السياق، برزت سلطات محلية “أمر واقع”، في الشمال، والشرق، والجنوب، تدير المناطق وفق هياكل مختلفة، بعضها مدني، وبعضها عسكري، وبعضها خليط من الطرفين.

صحيح أن هذه السلطات لم تكن مثالية، لكنها أثبتت أن المجتمعات المحلية قادرة على تنظيم شؤونها عندما تغيب الدولة المركزية، ما يفتح الباب أمام إعادة تصور شكل الدولة السورية المستقبلية.

كثيراً ما يتم تصوير اللامركزية كمطلب كردي أو مطلب خاص بالأقليات، وهو اختزال خاطئ وغير دقيق. فاليوم، ومع تعمّق الانقسامات، وتعاظم شعور المكونات المجتمعية بالخطر من عودة نظام مركزي متسلّط، باتت اللامركزية ضرورة وطنية للحفاظ على وحدة البلاد.

العلويون، الذين لطالما ارتبط بعضهم بالنظام، يجدون أنفسهم اليوم أمام تهديد وجودي، أثبتته مجازر الساحل في بداية شهر آذار/مارس الماضي، وسط استمرار الخطاب التحريضي الطائفي.

والدروز في الجنوب يعانون من تهميش سياسي طويل، ويبحثون عن صيغة تعترف بخصوصيتهم.

حتى السنّة، الذين يشكلون الأغلبية السكانية، أصبحوا موزعين بين سلطات أمر واقع لا تمثلهم بالكامل.

في مثل هذا المشهد، تمكين المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها، ضمن إطار وطني شامل، يبدو السبيل الواقعي الوحيد لتفادي عودة القمع أو انفجار التناقضات من جديد. 

نماذج للمقارنة

في دول أخرى من العالم العربي، تم تطبيق نماذج مختلفة من اللامركزية، بعضها حقق نتائج مشجعة. في العراق، رغم المشاكل الطائفية، منحت المحافظات صلاحيات إدارية أوسع، مما خفف من التوترات، فيما شكّل نموذج إقليم كردستان العراق الفدرالي حلّاً للصراع طويل الأمد مع المركز والجارة الشمالية: تركيا، ليتحول لاحقاً إلى ملجأ لمكونات المجتمع العراقي وشعوب المنطقة من الأزمات الاقتصادية والحروب الدامية.

وفي المغرب، تم اعتماد نظام الجهات، مع مجالس منتخبة وصلاحيات موسعة، خاصة في المناطق الأمازيغية، وسط رؤية منهجية للمملكة بإمكانية حل الصراع الطويل في منطقة الصحراء الغربية عن طريق اللامركزية السياسية.

أما في تونس، فقد مثّل الدستور الجديد 2014 تحوّلاً جذرياً في الاعتراف بالسلطات المحلية كشريك في الحكم.

أما النظام الفدرالي الإماراتي فيمكن اعتباره نموذجاً فريداً لإمكانية تحقيق النمو الاقتصادي والتطوّر العلمي والثقافي في بنية اجتماعية كاملة التماسك، في منطقة الشرق الأوسط، والتي تحاكي ووتتفوق على العديد من تجارب الفدرالية الغربية.

رغم الفروق بين سوريا وهذه الدول، إلا أن التجربة تؤكد أن اللامركزية ليست وصفة غربية مفروضة، بل خيار واقعي لإدارة التنوع، وتعزيز التمثيل، واستعادة الثقة بين المواطن والدولة.

النموذج السوري الخاص: توصيات عملية

من المؤكد أن اللامركزية السورية يجب أن تؤسس على صيغة وطنية تراعي الخصوصية السورية وليس تقليداً للتجارب الخارجية، بحيث تتقاسم كل من الحكومة المركزية والأطراف الصلاحيات والمهام والواجبات مع حصر الملفات الرئيسية كالدفاع والسياسة الخارجية والسياسات المالية العاملة (العملة والفائدة السياسية وغيرها) بيد العاصمة، مقابل توسيع هامش صلاحيات الإدارات المحلية المعنية بتقديم الخدمات والتعليم وإدارة الشؤون الإقليمية، في ظل الاعتراف بالوضع الخاص للمناطق ذات الخصوصية الإثنية (كروج آفا مثلاً) ضمن نموذج لامركزية غير متماثلة.

ويحتّم هذا النظام إعادة التوزيع العادل للثروات، خصوصاً تلك المرتبطة بتوزيع عائدات النفط والغاز، بناء على معايير سكانية وتنموية واضحة، وليس اعتماداً على حصرية القرتر أو السلطة.

التعديل الرمزي لاسم الدولة بإزالة كلمة “العربية” لتكون “الجمهورية السورية”، يمكن أن يشكّل دليلاً دامغاً على مساعي صون التعدد الهوياتي في البلاد، إلى جانب ضمان تعليم اللغات الأم للأكراد والسريان والتركمان والأرمن وغيرهم، لتعزيز الهوية دون المساس بالوحدة.

التخوف من التقسيم: وهم أم تحذير مشروع؟

لا شك أن البعض يرى في اللامركزية بوابة للتقسيم. وهذا الخوف لا يخلو من بعض الوجاهة، خاصة في ظل التدخلات الإقليمية والدولية. لكن التجربة أثبتت أن المركزية الصارمة هي التي قادت إلى الانفجارات، وأن استمرارها لن ينتج سوى دورة جديدة من العنف.

في المقابل، فإن اللامركزية السياسي ضمن الوحدة المتكاملة للدولة، والمبنية على دستور ديمقراطي، يضمن الحقوق، ويحدد الآليات، ويخضع للرقابة الشعبية، تمثّل حلاً لا تهديداً، في ظل انعدام الثقة بالسلطة المركزية الحالية، التي تذكّر في خطواتها، بالنهج السابق والمبني على منطق “أنا أحكم.. أنا أفعل ما أريد”.

سوريا اليوم أمام لحظة سياسية انتقالية واختبار وجودي، بين التحول دولة عادلة لكل أبنائها، وبين البقاء رهينة منطق القوة والغلبة. والخيار بين المركزية الاستبدادية واللامركزية السياسية التشاركية ليس تفصيلاً إدارياً، بل مسألة مصيرية تحدد شكل العقد الاجتماعي الجديد.

فبناء سوريا المقبلة على أسس من المشاركة، واحترام التنوع، وتقاسم السلطة، يلغي مخاطر الهشاشة الناجمة عن التسويات والحلول المؤقتة والمستندة على الشرعية الخارجية.

 

المصدر: “963media” سوريا وأحوالها

التعليقات مغلقة.