مطرقة السُّلطة وسنْدان القطيع

33

14qpt871ظاهرة الاغتراب ليست طارئة في عصرنا، فهي ثيمة جاذبة لفلاسفة وشعراء ومؤرخين مثل ابن الاثير، الذي تمنى في زمنه لو أن أمه لم تلده كي لا يرى ما رأى، واذا كانت غربة المثقف او الفيلسوف قد عولجت من خلال مقتربات لا حصر لها منذ اليونانيين القدماء، فإن غربة المؤرخ بقيت كما يقول المستشرق غرونباوم حكرا على العرب، بسبب فائض العاطفة او الميل الى اسقاطات نفسية تعويضية، وقد لا يقدم كتاب الروائي والاكاديمي حليم بركات عن الاغتراب الثقافي إجابات شافية عن سؤال مزمن، لكن ما قدمه في كتابه الآخر غربة الكاتب العربي امتاز بأمرين أولهما تغطية فترة زمنية تمتد منذ خمسينات القرن الماضي، وثانيهما استقراء تجليات هذه الغربة في نصوص لعبت دورا بالغ الأهمية في تحديث الحساسية العربية، منها «اغاني مهيار الدمشقي» لأدونيس التي يقول عنها بأنها الحان الانتصار والانكسار والاحتراق والتجدد، وهذا بالطبع هاجس أدونيسي بامتياز منذ وعى الشاعر مبكرا تلك الجدلية بين المألوف والغريب وبين الحياة والموت، ولأن عدد النصوص بين روائي وشعري وحتى تشكيلي في الكتاب يتطلّب وقفة مكرّسة لنقد في ذروة التطبيق، فإن ما يعنينا من مقاربته النظرية هو الابعاد الثلاثة للاغتراب، فأدناها هو المكاني وبالتالي يكون المنفى جغرافيا فقط، والحنين فيه الى مسقط الرأس، لكن البعدين الآخرين زماني وميتافيزيقي، فثمة غرباء في عقر أوطانهم ودورهم وبين ذويهم ويشعرون بأن المنفى تاريخي وليس جغرافيا، وما يشعر به هؤلاء المنفيون أنهم لم يولدوا في مواعيد ولادتهم، لهذا يكون الاشتباك شاملا بين وعيهم ورؤاهم وبين السائد في عصرهم، وهناك أمثلة عصيّة على الحصر في هذا السّياق، فالمقابر تعجّ بمن أحرقوا او قُتلوا بسبب ما اقترفوا من ابداعات، لهذا يعاد اليهم الاعتبار بعد الأوان، وحين يصبح ما قالوه او بشّروا به قابلا لاستيعاب الأحفاد.
المنفى بمعناه الزماني لا سبيل للعودة منه الى أي ملكوت، لهذا تتغذى الغربة وتتضاعف بالمزيد من اسبابها التي لا تتوقف، وهو منفى مغاير إلى حدّ ما للمنفى الميتافيزيقي، الذي لم أجد تعبيرا عنه أدق من قصيدة لمالارميه عن مريض يرقد في مصح على مرتفع جبلي وتصل اليه عبر النوافذ أصوات مبهمة، سواء كانت صراخ اطفال يلعبون او رجال ونساء يثرثرون، لكنه ينصرف عن هذا الضجيج الغامض الى صوت آخر هو صوت عربة الابدية التي تقودها خيول سماوية.
حقيقة الأمر ان مريض مالارميه هو كائن معافى لكن الشاعر جعل من المرض معادلا موضوعيا لاغتراب الإنسان في زمنه وهذا ما ألح عليه وجوديون من الفلاسفة والكُتّاب، فالاغتراب هو من صميم هذا الوعي الفلسفي وتحقيق الذات يتطلب شرطا صعبا هو الانفصال عن القطيع، بحيث يصبح الانسان مؤهلا للاختيار وبالتالي تحمّل مسؤوليته عنه.
وقد يكون مصطلح الاغتراب بحدّ ذاته ملتبسا، لأنه استخدم في سياقات فلسفية واخرى نفسية واجتماعية، إضافة الى الاستخدام الاقتصادي وفق الرؤى الماركسية.
لهذا تتعذّر معالجة الاغتراب في عدد من النّصوص من مقترب واحد، بسبب التفاوت في الوعي بالاغتراب، فالغربة السهروردية مثلا او غربة التوحيدي ليست من طراز الغربة التي يشكو منها شاعر عربي حديث جاء في الخمسينات من قريته وتاه في المدينة، كما ان المنفى لدى ادوارد سعيد مثلا لا يلتقي على الاطلاق مع مفاهيم تقليدية فلسطينية عن المنفى باعتباره نقيض الوطن، فالشعور بالنّفي يتجاوز المكان وحيثيات الهجرة واحيانا يصبح غامضا من طراز ما كتبه جيته في البلد البعيد عن حنين صبية لا ينقطع للعودة الى مكان ما تجهله.
المنفى اعتراف بعدم التطابق بين الفرد وشروط ولادته وتكوينه، لهذا جرى تبسيطه رومانسيا وتولت الاغاني ترويج هذا المفهوم، ولو اخذنا شعراء المهجر مثالا نجد منهم من يتعامل مع المنفى باعتباره المكان الآخر المحروم من ذكريات الطفولة، والطقوس الاجتماعية السائدة في مسقط الرأس مقابل آخرين مثل، إيليا أبي ماضي منفاه ميتافيزيقي، فهو جاء لا يعرف من أين ويجهل مصيره ايضا، بحيث لا يكون هناك مقابل هذا المنفى الوجودي ايّ ملكوت.
إن الغربة لدى المثقف العربي مزدوجة وكذلك منفاه، فهو يُكابد عمره بين مطرقة السلطة وسندان القطيع، بحيث ما من سبيل للفرار الا بالتأقلم الدفاعي الذي يورّطه بالتناقض او بمواجهة المصير التراجيدي، فغربة التوحيدي المزدوجة هي التي دفعته الى احراق كتبه بنفسه بعكس ابن رشد المُفتَرى عليه الذي أحرقت كتبه عقابا ولم تكن ذات دافع انتحاري كالتوحيدي .
٭ ٭ ٭
في خمسينيات القرن الماضي كانت مطرقة السلطة تتجسّد في ثقافة اتباعية تزعم القداسة وتتحصّن بها ضدّ كل تغيير، أما سندان القطيع فقد تمثّل بمناخات اجتماعية تسيّرها الاعراف والتقاليد التي صاغتها السلطة اساسا، هكذا كان العربي في العديد من الاوقات عدو نفسه يلبي شهوات جلاديه لأنها مُمَوّهة ومطروحة بتحايل بلاغي. فالسلطة غالبا ما تسعى الى توظيف الجهل لحراستها، خصوصا حين يكون جهلا مقدّسا بالمعنى الذي تحدّث عنه اوليفييه روا والمصير الذي لقيه السهروردي المقتول لم يكن فقط من المطرقة الأيوبية، بل مما أشيع عنه لدى العامة، لهذا اختصر الدراما كلها بعبارة بالغة الكثافة حين كتب على جدار سجنه « أرى قدمي أراق دمي» وهو تعبير مشحون بالتياع ذاتي وبشيء من الندم.
ما من ابداع لم يغترب في مسقط رأسه وما من وعي مطابق يفرز اجتراحا فالغربة والوعي المفارق توأمان .

القدس العربي

التعليقات مغلقة.