فـــي بـــلاد قـــســــد
صبحي حديدي
دمشق بالطبع كانت المحطة الأولى في زيارتنا إلى سوريا، فاروق مردم بك (قرابة 50 سنة من التغييب القسري)، وزياد ماجد (اللبناني المنتمي إلى سوريا قلباً وعقلاً: 22 سنة)، وكاتب هذه السطور (38 سنة)؛ وفيها قضيتُ أربعة أيام مع الرفيقين، ثمّ توجّب أن أكمل هذه الرحلة العجائبية، الأقرب إلى حلم تحقّق واقعياً وليس مجازاً، نحو الشمال الشرقي. هذه، مدن دير الزور والحسكة والقامشلي والرقة، هي ما نطلق عليه، نحن المنتمين إليها لجهة مسقط الرأس، تسمية «الجزيرة» لأنها غالباً تقع بين نهرَي الفرات ودجلة، أو لاعتبارات أخرى تاريخية وجغرافية ترجّحها أسماء مدن وبلدات أخرى خارج النطاق الجغرافي السوري، وبينها الموصل العراقية ونصيبين التركية.
ولم يكن شحذ الذاكرة الشخصية، أو بالأحرى شحنها في تعبير قد يكون أكثر صواباً، هو الدافع وراء زيارة مدن الجزيرة الأربع تلك، خاصة القامشلي حيث ولدتُ وترعرعت ودرست قبل أن أغادر إلى دمشق وجامعتها؛ بل كان الحافز الأوّل والأهمّ والعملي والمطلوب في هذا الطور من حياة بلدي سوريا، هو الوقوف عيانياً على أحوال السوريين في ظلّ «قوات سوريا الديمقراطية، قسد»، وتلمّس ما أمكن من أنساق السياسة والوعي، والقبول/ الرفض/ الاحتجاج، وقراءة الحاضر واستشراف المستقبل لدى عامّة الناس هناك؛ أو ما يصحّ اختصاره تحت مفهوم «نبض الشارع» الشعبي العريض.
وبالطبع، ليس هذا العمود المقام المناسب لتبيان ما توصلتُ إليه من خلاصات، الأمر الذي أزمع مناقشته بتفصيلات أوسع في أقسام أخرى من هذه الصحيفة؛ وبالتالي فإنّ هذه المقاربة، هنا، لن تتيح الكثير بمعزل عن مشاهدات شخصية تؤطرها مع ذاك منهجية تمثيل علامات ذات دلالات عامة، لا تقتصر على الذاتيّ والانطباعي. وقد يجوز البدء من تفصيل العبور إلى «بلاد قسد»، كما شاء أحد الأصدقاء الديريين تصوير الواقعة، أو عبور نهر الروبيكون مجازياً كما شئتُ اجتراح الانتقال نحو طريق الحسكة، فالقامشلي. ذلك لأنّ جميع الجسور التي تربط مدينة دير الزور بشرق الفرات قد دُمّرت، وبالتالي توجّب أن أعبر النهر (مع العشرات، أطفالاً ونساء ورجالاً) في «عبّارة» نحو الجهة الأخرى.
حواجز كثيرة على الطريق البرّي نحو الحسكة، يشغلها عناصر «قسد» من العشائر العربية، لم يتصرّف أيّ منها على نحو استفزازي أو تسلطي أو تفتيشيّ، وكانت عبارات اللطف هي الغالبة على اللغة؛ وأمّا على الطريق من الحسكة نحو القامشلي، فقد كانت أغلبية من الكرد هي التي تدير الحواجز، ولم تتبدّل الحال من حيث الدماثة. وقبل الانطلاق نحو «بلاد قسد» هذه، قيل لي إنني (رغم ولادتي في القامشلي) أحتاج إلى كفيل كردي كي أتجوّل في بقاع الحسكة والقامشلي والرقة، وهذا ما سعيت إليه بالفعل، ثمّ تبيّن أنّ أحداً على أيّ حاجز قسدي، إذا جاز القول، لم يسألني عن كفالة؛ ما خلا الرقّة، حين اشتبه حاجز في سحنتي (كما أرجّح!) فطلب هويتي (التي لا أملكها!) وسلّمته جواز السفر، فدققه على كومبيوتر في محرسه، ثمّ عاد مبتسماً ومرحّباً: «كنتَ مطلوباً من خمسة فروع أمنية، أهلاً وسهلاً بك في سوريا». وأمام مشهد مشحون بشتى المشاعر المتضاربة، الإيجابية والعذبة، لم أتمالك نفسي فأجبته شاكراً بما تبقى لديّ من ذخيرة اللغة الكردية.
في القامشلي زرتُ الدار التي ولدت فيها، شارع زهير ـ حيّ قدور بك، التي غادرها الأهل حين آبوا إلى دير الزور مدينة العائلة الأمّ؛ وتلكأت عند مكتبة أنيس حنا مديواية، التي تربيتُ فيها ثقافياً، ومنها وبسببها قرأت عشرات المؤلفات التي كوّنت وعي اليفاعة؛ وحرصت على زيارة كنيسة شهدت صلاتنا الأوثق مع صديقات وأصدقاء مسيحيين؛ ولم أتخلّف عن تفقّد ما تبقى من سينمات دمشق وحداد وفؤاد، حيث شبّت ذاقتنا السينمائية على أفلام هرقل وماشيستي وشامي كابور وهند رستم وفريد الأطرش، قبل أن تُستكمل خلال سنوات الدراسة الجامعية في دمشق، مع النادي السينمائي والمدارس السوفييتية والإيطالية والفرنسية.
وفي استقراء مراتع الطفولة واليفاعة الأولى هذه، كنت أيضاً أستعيد سليم بركات، الشاعر والروائي السوري الكردي الكبير، صديق الطفولة وزمالة الدراسة؛ في عملَيْ السيرة البديعين «الجندب الحديدي»، سيرة الطفولة، 1980؛ و»هاته عالياً؛ هات النفير على آخره»، سيرة الصبا، 1982. كتاباته تلك التقطت روح «الجزيرة» كما لم يفعل أيّ نصّ أدبي سوري حديث ومعاصر، ومخيّلته الرحبة الطليقة تجاسرت على العالي البعيد الاختراقي، ولغته (وهو الكردي) شقّت الفصحى من تلابيبها. كما استعدتُ مقدّمته لطبعة 1986، إذْ لاح أنني مخوّل بضمّ سيرتي إلى سيرته: «طفولتكَ حرّة منك لأنها يقينُ نفسها. وأنت جهالة الوقت المنحدر إليك بلا طفولة. فانتظرها. طفولتك قدر ما تستطيع. أجّلها قدر ما تستطيع. موّهْ الطريق إليك كي لا تصل. أبْقها في المتاهة لأنك لن تُمتحن بإرثها بعد الآن. لقد تقوّض الأبديّ».
كأنّ بركات، ابن «روجافا» في نهاية المطاف، لم يطلق العنان عبثاً لفكرة تقويض الأبد والأبديّ، هذه التي يلهج بها السوريون اليوم بعد انهيار نظام «الحركة التصحيحية»: «ما في للأبد/ عاشت سوريا وسقط الأسد»؛ الأب مثل الوريث، وعصابات الاستبداد والفساد، ومافيات النهب والكبتاغون.
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.