حسين جمو
استمر إرث الرئيس الأميركي وودرو ويلسون (حكم من 1913 إلى 1921)، وتحديداً مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، نشطاً، بشكل متقطع، في السياسة الخارجية الأميركية حتى مطلع سبعينيات القرن العشرين. استخدم هذا الإرث لأغراض دعائية أيضاً من أجل رسم صورة أخلاقية متفوقة على الاتحاد السوفييتي الذي كان يتقدم على الأميركيين والمعسكر الغربي برمته في هذا المجال. لكن مع استلام هنري كيسنجر منصب مستشار الأمن القومي مطلع عام 1969، دخلت السياسة الخارجية الأميركية في مرحلة الانفصال عن الأخلاق السياسية. ويقر كيسنجر في مذكراته بعنوان «سنوات التجديد» الصادر عام 1999:
في الاقتباس السابق، أورد كيسنجر دافعين للدعم الأميركي لقضية معينة، وكمثال كانت القضية الكردية، هما الدافع الأيديولوجي والدافع الاستراتيجي. ما فعله كيسنجر في السياسة الأميركية برمتها أنه استطاع بالتدريج انتزاع «أيديولوجيا الأخلاق» في الدوافع المعلنة للسياسة الأميركية، وفعل ذلك علناً، لكنه بقي – وبشكل غريب – حتى نهاية حياته وهو يستغرب عدم تفهم الآخرين لمواقف واشنطن «غير الأخلاقية»، وحاول مراراً تصوير كردستان بأنها وعرة وجبلية ونائية وكأنها جزء من الأراضي الصخرية على سطح القمر ولا يمكن الوصول إليها لدعمها بشكل طبيعي.
لقد نجح كيسنجر في إعادة بناء السياسة الخارجية الأميركية ضمن بيئة جديدة، لكنه منح خصوم الولايات المتحدة أهم ما كانوا يحتاجونه بالفعل في دعايتهم المضادة ضد المعسكر الغربي، وهو الانحطاط الأخلاقي للغرب وخصالهم المنحرفة وغير المحترمة في السياسة.
في العموم، شارك كيسنجر في انهيار الثورة الكردية في كردستان العراق عام 1975، وبات اسمه في الأدبيات الكردية مرتبطاً بالخديعة التي نفذها وأوقع فيها ملا مصطفى البارزاني. ولا يكاد يذكر الكرد حتى اليوم عن كيسنجر إلا بهذه الواقعة التي رسمت صورة سوداء للسياسي الأميركي. ولكي نمهد لعلاقة كيسنجر مع الكرد ومقارباته المختلفة على فترات زمنية عديدة وحرصه المستمر على تبرئة نفسه مما حدث أمام الكرد، لا بد قبل ذلك من محاولة قراءة فكر كيسنجر وكيف يرى السياسة، والأهم إلى أي حقبة زمنية ينتمي هذا الشخص العملاق الذي استكمل لخصوم بلاده، وأصدقائها الصغار، رسم صورة «أميركا غير المحترمة» في العالم، بعد أن كانت واشنطن حتى ذلك الحين ما تزال متمايزة حتى عن حلفائها الغربيين، مثل بريطانيا وفرنسا المثقلتين بإرثهما الاستعماري العنصري.
ميترنيخ معلماً
لا يمكن فهم عقلية كيسنجر في صناعة السياسة من دون تحديد مصادره الفكرية في «الواقعية السياسية» التي اعتنقها طيلة حياته وسببت كوارث لعدد من الشعوب على امتداد العالم، من فيتنام إلى تشيلي مروراً بكردستان.
كيسنجر امتداد معاصر للسياسي النمساوي الشهير، كليمنس ميترنيخ، وزير خارجية النمسا في الفترة ما بين عامي 1809 إلى 1848، والذي وضع قواعد ملكية للاستقرار في أوروبا ضد ما سمي حينها «ربيع الشعوب» حين اندلعت ثورات في أنحاء القارة الأوروبية وتم قمعها بقسوة بفضل تحالفات أسس لها ميترنيخ بين أنظمة أوروبا الملكية، إذ أسهمت دبلوماسيته في إنهاء عصر نابليون بونابرت وما كان يمثله للطبقات الشعبية على امتداد العقود اللاحقة. تبنى كيسنجر مبدأ «توازن القوى» وانضباط النظام الدولي بغض النظر عن الأيديولوجيات. وكتب أطروحته للدكتوراه حول «السلام الطويل» في أوروبا بعد هزيمة نابليون بونابرت عام 1815، مع التركيز على كيفية تفاوض رجال الدولة المحافظين على الوفاق الأوروبي من خلال مزيج من الدبلوماسية والقوة العسكرية. وكان الدرس الذي استوعبه، وطبقه فيما بعد كمستشار، هو ضرورة قمع العناصر المتمردة، سواء كانت رجعية أو ثورية، من أجل الحفاظ على الوضع الراهن المستقر.
في السادس من ديسمبر/كانون الأول، كتب الأكاديمي الأميركي الاشتراكي جون فيفر مقالاً في «Foreign Policy in Focus» بعنوان مباشر: «إنقاذ الواقعية السياسية من هنري كيسنجر»، وبعنوان فرعي أوضح: «لقد رحل كيسنجر. دعونا نضع إرثه الفاسد جانباً أيضاً من خلال تطهير الجغرافيا السياسية من مفاهيمه البالية عن التجرد من الأخلاق».
يلفت فيفر بحق إلى أن النهج الذي يبدو قديم الطراز في التعامل مع الجغرافيا السياسية، وهو الواقعية السياسية، هو الذي هرّبه كيسنجر من القرن التاسع عشر إلى النصف الثاني من القرن العشرين الذي لم ير أي دور للأخلاق في الشؤون العالمية، خاصة في نسختها الحديثة من حقوق الإنسان. لقد أمضى ساعات طويلة في تحليل توازن القوى العالمي من أجل تعزيز النظام العالمي الملائم للولايات المتحدة. لقد أراد الحفاظ على «السلام الطويل» الذي نشأ خلال الحرب الباردة حتى لو كان ذلك يعني وفاة الملايين من الناس الذين عاشوا بعيداً عن واشنطن أو موسكو أو جدار برلين.
ولإزالة أي التباس، فإن المآخذ على الوزير الراحل قائمة طويلة، أبرزها توصياته لتوسيع حرب فيتنام إلى كمبوديا، ودوره في الإطاحة بسلفادور الليندي في تشيلي، ودعمه لجنرالات باكستان عندما قتلوا ملايين الأشخاص في بنغلادش، والضوء الأخضر الفعال لغزو إندونيسيا لتيمور الشرقية وتأييد غزو تركيا لقبرص ورعايته اتفاقية بين دكتاتورين في إيران والعراق ضد الثورة الكردية.
من هنا يصف الكاتب كيسنجر بأنه لا يختلف عن العديد من الطغاة بل وتحدث بلغتهم: ماو في الصين، وبريجنيف في الاتحاد السوفييتي، وبينوشيه في تشيلي، وشاه إيران. وهكذا، كان كيسنجر بمثابة «ارتداد إلى قرون سابقة من فن الحكم عندما كانت قوة السلاح لها الأسبقية على قوة الحجة». وما جعله مختلفاً – جذاباً للمستبدين والمشاهير على حد سواء- هو البلد الذي خدمه. ولو كان كيسنجر وزيراً للخارجية في النمسا أو ألمانيا ما بعد الحرب، لما كان ليحظى بمثل هذا التأثير العالمي. وبدلاً من ذلك، بعد أن انتقل عندما كان شاباً إلى الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الثانية، «أصبح ميترنيخ يحمل أسلحة نووية»، في إشارة من الكاتب جون فيفر إلى المعلم الروحي لكيسنجر وهو وزير خارجية النمسا مطلع القرن التاسع عشر.
هل أساء كيسنجر تعريف «الواقعية السياسية»؟ إذا نظرنا للمفهوم الأولي، فقد ظهر هذا المصطلح في العام 1853 وصاغه المنظر الألماني لودفيغ أوغست فون روشاو عام 1853. وكان هدفه تنبيه أصدقائه الليبراليين في ذلك الوقت «للتحلي بالواقعية» والاعتراف بأن الحيوانات المفترسة العليا تحكم الغابة. هذا لا يعني، في كتاب روشاو، أن يتحول رد الفعل إلى التجرد من الأخلاق. لقد ذكّر روشاو زملاءه الليبراليين ببساطة بأن المُثُل والإقناع الأخلاقي لن يفوزا بالضرورة. وعلى حد تعبيره: «إذا كنت تريد إسقاط أسوار أريحا، فإن السياسة الواقعية تعتقد أنه، في غياب أدوات أفضل، فإن أبسط معول يكون أكثر فعالية من صوت أقوى الأبواق». بالتالي، كانت الواقعية السياسية الأولى محاولة للتخفيف من النضال النظري والبحث عن أدوات لاختراق جدار الأنظمة المتسلطة. لم تكن دعوة للتجرد من الأخلاق. من أبسط صور الواقعية السياسية هو عدم التمرد في اللحظة غير الملائمة وعدم الثقة بالوعود المسكّنة للحكام المتسلطين. بهذا المعنى، لا يصلح هذا المذهب السياسي للقوة العظمى الأولى في القرن العشرين أن تبدو كمحتال أو تاجر بلا رحمة. والحق أن كيسنجر طبق هذه المبادئ بحيث تبدو الولايات المتحدة بهذه الصورة التي يتمناها لها أعداؤها. وعلى هذا الأساس، أيد الغزو التركي لقبرص عام 1974 لا لشيء إلا لأن تركيا أكبر حجماً وأقرب جغرافياً للاتحاد السوفييتي.
إرث كيسنجر ممتد في السياسة الأميركية إلى اليوم ويتسبب بأضرار كبيرة للفقراء والضعفاء. وكان إعطاء دونالد ترامب الضوء الأخضر لغزو تركيا لسوريا بمثابة صدى لدعم كيسنجر للتوغل التركي في قبرص. وعلى مدى العقد الماضي، نظر كيسنجر إلى أوكرانيا كجزء من «دائرة نفوذ روسيا» على الرغم من أنه تحول قرب نهاية حياته إلى دعم عضوية أوكرانيا في حلف الناتو. وفي كلتا الحالتين، كان يحسب احتمالات السيناريوهات المختلفة بناءً على تقييمه لميزان القوى على الأرض. إن المفاوضات التي تساهم في تقويض هذه المعايير، جنباً إلى جنب مع تقويض السيادة الأوكرانية، كما دعا كيسنجر، سوف تمثل أسوأ أنواع السياسة الواقعية، وكذلك فكرة أن أوكرانيا يجب أن «تستسلم» ببساطة لأن روسيا تمتلك قوة عسكرية أكبر وأقوى. وفي المحصلة، فإن الولايات المتحدة تعيش حرباً فكرية داخلية غير محسومة بين إرث كيسنجر ومبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان، وكلاهما ما زالا مختلطين وينتجان سياسات متناقضة بين منطقة وأخرى.
بالطبع، ظهرت مقالات أخرى تمجّد إرث كيسنجر، كما سنورد لاحقاً، وهذا يشير إلى استقطاب بحسب الأيديولوجيا إلى حد ما. فاليساريون عموماً يبغضون كل إرث كيسنجر ويدعون إلى التخلص من المفاسد التي عمقها في الحياة السياسية الأميركية، وجون فيفر أحد هؤلاء. في المقابل، كتب الدبلوماسي الأميركي المخضرم مارتن إنديك مقالاً في أكتوبر/تشرين الأول 2021 بعنوان «النظام قبل السلام في الشرق الأوسط» خصّه للحديث عن إرث كيسنجر.
وإنديك، الذي خدم سفيراً لبلاده في إسرائيل، ينظر برومانسية إلى نهج كيسنجر فيقول:
في يوم رحيل كيسنجر، 30 نوفمبر/تشرين الثاني، كتب ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، مقالاً عن مسيرة كيسنجر «الناجحة»، وخلص بعد ذكره سريعاً أن بعض الانتقادات ضده محقة، أن النقطة الأكبر هي أن إنجازاته كانت عظيمة وأكبر بكثير من إخفاقاته. والنتيجة – وفق هاس – هي إرث دائم وجدير بالتعامل مع العالم.
المصدر: المركز الكردي للدراسات
التعليقات مغلقة.