السقوط في «جحر السبع» .. رواية في أدب الإعتراف/ كمال القاضي

35

03qpt870

تأتي الكتابة الروائية أحيانا بقوة الدفع الذاتي نتيجة كثير من عوامل التحريض الإبداعي المتصلة بالموهبة والثقافة الخصبة والمكونات الإنسانية والاجتماعية والبيئية هذا عن الكتابة كترجمة لاكتمال الفكرة والتعبير عنها وإثبات صحة وحقيقة الموهبة لدى الكاتب أو مشروع الكاتب باعتبار أن النزوع إلى الكتابة لا يعني في كل الأحوال وجود كاتب بالفعل.
أما الاستمرار في الإبداع فلابد أن يكون وهجا لتجربة ناضجة آخذة في السطوع هذه حالة نادرة الحدوث لا نجدها إلا في ظروف استثنائية لقامات أدبية كبيرة ولكنها تتكرر أيضا في ظروف أخرى أكثر استثنائية وتستمد وجودها و بقائها من تميزها حتى وإن كانت الكتابة الروائية أو القصصية هي في الأصل صدى لتحول سياسي أو تصادم في الأفكار أدى إلى تسجيل اليوميات.
في مرحلة سابقة صدر الكتاب الأهم للكاتب الشاب سامح فايز تحت عنوان «الخروج من جنة الإخوان» فأحدث دويا هائلا لكونه مثل في حينه الاعتراف الأول لأصغر أعضاء الجماعة المنشقين عنها فضلا عن ورود حيثيات إنسانية ونفسية بررت للشاب المتدين بالفطرة انشقاقه أو برر هو بها ذلك الانشقاق وقد أخذ الكتاب حيزا وفيرا من الاهتمام والأضواء لتزامنه مع الصراع بين الدولة الدينية الصاعدة لسدة الحكم والأغلبية الليبرالية التي تصدت لمشروع الهيمنة وأسقطته.
من هذا التضاد استفاد كتاب سامح فايز وبات مرجعا لإثبات انتهاء صلاحية الجماعة كفصل سياسي قياسا على الحجة التي تقول وشهد شاهد من أهلها لا سيما أن الشهادة لم يكن يشوبها الغرض وليست عملا انتقاميا ثأريا.
نفذ الكتاب فور صدوره مخلفا عاصفة من النقد المتباين ما بين الرفض والقبول إلى أن جاء العمل الروائي الثاني «جحر السبع» ماضيا على نفس الدرب مع اختلاف «الورم» وتحوله من الايدولوجيا إلي الإبداع المحض ففي الرواية يحكي البطل يوسف عن رحلته الطويلة منذ كان صبيا يعاني ويلات العزلة والفقر وضيق الأفق في قريته القريبة من القاهرةالكبرى الواقعة تحديدا في أطراف محافظة الجيزة حيث يعيش الابن رهين الظروف الاجتماعية القاسية.
ومع صحوة التعليم والمتغير الثقافي المصاحب للتحصيل العلمي والاحتكاك بفئات اجتماعية متميزة ماديا وفكريا بدأت بذور التمرد تنمو بداخل عقل ووعي يوسف ومنها كانت وجهته نحو عوالم رحبة تذوب فيها الفوارق سريعا أو تتجمد فتظل على حالتها إلى ما لا نهاية.
ولما كان التفوق هو سر الخلاص من عقدة الحاجز الطبقي فقد ثابر البطل وكافح حتى أدرك النجاح أو أدركه النجاح وصار لمستقبله ملامح يمكن على ضوءها أن يتحسس طريقه الجديد ولكن الأمر ما زال يحتاج إلى السباحة مجددا ضد التيار وكان عليه أن يسبح أولا ضد التيار الفكري الذي شكل تلك العقلية المنغلقة قبل الانخراط في مجتمع المدنية والسباحة في العلاقات داخل الوسط الراقي وعليه بدأ البطل ابن قرية جحر السبع في المراجعة الشاملة ومد لنفسه جسرا واهيا للعبور إلى الجانب الأخر فعمل وهو الحامل للشهادة العليا «ليسانس الحقوق» في المهن الدنيا وخالط طائفة الحرفيين والباعة الجائلين وأصحاب المحال التجارية وتنقل من موقع جغرافي إلى موقع ومن حي إلى حي دون أن يفقد شيئا من تكوينه الإنساني القويم أو لغته.
أكتسب يوسف جرأة التعامل وزادت خبراته كما اتسعت دائرة علاقاته وتعلم كيف يخاطب الأنثى دون خجل وبأريحية وثقة كان بالطبع يفتقدها في طفولته وصباه ومن ثم خاض مغامرات كانت فيما بعد حماية له فقد تحصن بها من احتيال الفهلوية والغوغاء والسوقة. حصاد وفير جمعه الشاب الذي فطر على الفضيلة من حياة الصعلكة زاد على كل ما تعلمه تحت راية ألوية الجهاد ومحاذير الحلال والحرام وفرائض الولاء والطاعة ورايات وشعارات طالما انقاد خلفها معصوب العينين لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم فقط يندهش في أفضل حالات الرفض وعدم الاستجابة.
يتحدث سامح فايز في روايته «جحر السبع» عن الحرية كقيمة في حد ذاتها ويضرب بعمق دعاوى الفضيلة المزعومة في مجتمع تأسس على الخوف، ولفت أسواره سياجا من شوك كي لا يستطيع أحد القفز من عاليه.
هكذا يرصد عبر نسق روائي مغزول بدقة مساوئ التجربة الطويلة التي عاناها طفلا وتحرر منها شابا بعد إعمال اليقين وإدراك الحقيقة من غير وسيط أو مرشد أو داعية يمتلك وحده مفاتيح الجنة والنار، الرواية تمثل دوران آخر للكاتب في مدار التجربة الذاتية فالتفاصيل تشي بصاحبها والتحولات تشير إليه فليس من شبيه للبطل غير البطل نفسه.

عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.