الدهشة كأرض مشتركة بين قلق الذات والرغبة في حيازة العالم: قراءة في ديوان «حيرة الطيف» لأحمد زنيبر

50

03qpt871

قارئ «حيرة الطيف» (2013) للمبدع المتعدد أحمد زنيبر يخرج بانطباع أولي هو أن الذات تعتبر الخيال مفتاحا لحيازة العالم بين يدين ومع هذه الحيازة تصبح الموجودات أكثر جدة. وأن الشعري الذي يعد أصل كل الفنون قادر على انتشال الذات من قلق الوجود ومنحها كينونتها التي فقدتها. إذا كانت بعض النصوص تختار قراءها فإن نصوص «حيرة الطيف»، التي يتردد صداها عند مسحة توشح جميع عناوين نصوص الديوان، وهي حيرة الذات في المكان والزمان معا والرغبة في صون الوجود صونا يليق به، تأتي القارئ من أرض الدهشة والإدهاش. الدهشة كسؤال يحتمي به الكائن في مواجهة التحول الذي يطال العالم من حوله. دهشة تستعذب العزف على أوتار اللغة وتفضل السفر في بنية الاختلاف. جاء في نص «من وحي الرماد»: (كعازف على وتر/ من وحي الرماد/ تقوده خطوات لا تبين/ ترفض صمتا ما ارتضاه/ كلما داهمه السؤال…) ص 19. كما جاء في مناص آخر: (وجه المدينة/ والكلمات حيرى/ بين الدهشة والحصار..) ص41
في هذا المساق، هل غادرت هذا العالم (المكان/ التاريخ/ الإنسان) أشياء جعلته يتحدر نحو الهاوية وتلوذ فيه الذات هاربة إلى ما قد يعيدها إلى سكنها بعيدا عن الاغتراب والقلق والمحنة والانشطار والفقد؟ وأي حيرة تتقصدها الرؤيا الشعرية المشحونة بمعالم الذاكرة والمكان والتاريخ في أبعادهما المختلفة؟ ما حدود الاتصال والانفصال بين الذات والمكان عندما تتمهزل جماليات هذا العالم و تغدو الذات كقرصان حائر أمام فراغ مطلق؟
هذه المداخل مؤقتة لتأسيس قراءة أولية لتجربة أحمد زنيبر التي أرى أن قوتها تكمن في رغبة الشاعر كشف المتحجب والمتواري في هذا العالم (المدينة) وما آلت اليه حياة الكائن من مآس وحيرة في هذا الفضاء الذي تنغلق أو تمتد حدوده لتعانق أبعادا متعددة. يتحدر نص باب الخميس من تحسر معلن عن زمن ولى حيث فقدت المدينة كل معالم الجمال التي تميزها وساد الصمت وأصبح الحلم أعمى واستشرى الليل في الشوارع وحيدا. فاستحال فعل التغيير بمثابة رحلة عبثية يخوضها الكائن الذي وهب نفسه للبراري مصغيا لرماد الوقت بلا سند أو رفيق. هكذا تحولت المدينة إلى تحفة مهربة في قول الشاعر إسوة بالشاعر المغربي المعداوي في تصويره لمدينة سبتة المحتلة. فصوت الشاعر يختفي وراء أسطورة بروموثيوس سارق نار المعرفة التي وزعها على الإنسانية ليكون خلاصها من عذاباتها ليعلن عبر تناص سياقي ومرجعي مع قصة نوح عليه السلام استحالة بعث وولادة المدينة /البلد، مدينة سلا بإحالاتها المرجعية، ماء الراقراق/ البحر/ باب الخميس…ففي الوقت الذي يحضن فيه الشاعر زمنا مشرقا وتتبدى فيه ملامح الولادة يعود الشاعر الى رصد مظاهر الضياع والفراغ والتيه والعذاب وكل مهاوي السقوط المؤدي إلى الموت إلا أن قلق الذات وتساؤلها ودهشتها في تغيير عالمها لا يعدم الأمل في انبثاق الربيع والمطر والطير وما يحمله السحاب من أسرار ودلالات على الخصب و الحياة، إذ يطل الأمل كامرأة من شرفة الوقت: (لها أن تشرب من النبع/ ما تشاء/ لعل الربيع القادم/ يزهر في الأحداق ..) ص 17. هكذا تكتمل دورة الرمز الأسطوري الحياة/ الموت/ الحياة ويصبح الليل واليابسة والصمت في مقابل النهار والربيع والحركة كثنائيات تغلف أجواء هذا النص المشحون برؤية تمتح من قلق وجودي للذات في مكان مطلق وفعل الكتابة هو الذي يجسر هذه العلاقة في ظل التيه والغربة التي تعيشها الذات الشاعرة. يحاول الشاعر أن يخفف من عبء مشاعره حالما برحابة المكان، يهديه ألفاظا ساحرة، وصامدا أمام محن الذات لكن عراء المكان لا أحد يخفي حقيقته والحلم الذي يضمن للكائن استمراره بارد وضائع، حلم شبيه بنبض: (يرسم وجه مدينة كسرت/ في المدى /مجاديفها وغابت/ إلى الأبد ..) ص 23 . هكذا يصبح الصمت خاصية مطلقة تعضدها نقط الحذف، صمت يجلي فقد بوصلة التغيير.
من هذا المنظور، لاشيء يرضي ذاتا فقدت صلاتها بالعالم وأضاعت كل شيء في مدينة تلتحف عجزا تاما سوى أن يخاطب الريح لتبعث روحا جديدة من أوصال مدينة انكمشت فيها الأضواء واحتضرت الساعات. فلا شيء يعيد الكائن إلى أرضه إلا عودة تليق بهذه الأرض التي فقدت كل معالم الحياة وهو ما يقويه تكرار لأدوات النفي (لا أمل/ لا الظل/ لا الأفق/ لا سفينة/ لا قميص..)، أضحت عالما للحنين فقط ، فتحولت إقامة الشاعر من المكان إلى اللغة وأضحى الرحيل حركة بين الشعري والواقعي. رحيل يجلي عزلة الكائن و تأكيده أن الذات غير قادرة على استعادة كينونتها ولا المكان يتسع لسكن الذات والتخفيف من روعها. بل وحدها القصيدة بأجوائها المغتربة تصبح مسكن الذات في الوقت الذي يضيق فيه المكان وتعسر فيه الولادة والتغيير.
ثمة فارق بين الاستسلام لتشظي الخطو وعجز أبرد من الموت وارتعاشة جسد يابس و بين الإيمان بالخروج ضد اليقين الثابت باستحالة الحياة ،وهو ماقاد القرصان إلى مواصلة البحث دون سأم أو ملل و خنوع واستكانة للضياع: (لك المجد أيها القرصان/ لم يتعبك التجوال/ وما أغوتك الأضواء/ سابقت العمر بأنفاس مقطرة) ص 33
لا شك أن الموت يحمل دلالات ايجابية خاصة عندما يصبح رمزا للوفاء والفداء في تخليص الإنسان من شقائه، في مقابل ذلك يصبح جسرا لمساءلة تاريخ الأمة الذي عرف أوجاعا وحروبا طاحنة بلا مبرر وشمت هذا التاريخ ( حرب البسوس،…) وحيث يصور الشاعر ضيق المكان والقرصان الذي لم يبرح مكانه والعاطلين الذين ضاعوا على ظهر الموج بحثا عن وهم لم يروه أبدا، والكل قد أضاع أهدافه: (ولا أفق/ ولا انتظار) ص 36، لا ينفي الشاعر في نهاية القصيدة أن تتولد من هذه الحسرات المقطرة إشراقة وأمل في ولادة جديدة في المكان.
يحضن نص «طفل الفراشات» زمنا موشوما بالمآسي والمحن والصمت والعجز والعدم وفقدان الأمل بزمن مشرق. لكن دهشة الذات الشاعرة أمام هذا الايمان جعلتها تختار صوت طفل يسابق الريح مثل الفراشات، والطفل بما يحمله من دلالات رمزية على الولادة الجديدة، ينبعث من العدم، من رماد الوقت، يصيح ملء الدجى: (ما زال في العمر الشقي/ حمل أنفاس) ص 44 ،من أجل مدينة هي الماء والرقراق. مدينة تخبئ أحلام وأسرار الشاعر وجمالها يتوزع بين ما يميزها من موجودات وبين نظرة الشاعر إليها. مدينة وحدها من تقرأ كف الشاعر، هي نبيذه. المدينة والشاعر ذاتان لا تنفصلان، ظلان لايعوضان، فالمكان والذات شيء واحد ولا وجود للمدينة خارج ذات الشاعر.
ديدن الشاعر كما يعبر عن ذلك في نص «صرخة الريم» اللغة والمجاز والخيال، إذ تحتمي الذات بهذه العناصر الفنية في صرختها وبوحها بضرورة التغيير، إلا أن فعل التغيير يتجاوز حدود مدينة سلا إلى مدن أخرى، حيث يسبق فعل الولادة انتشار الخبر قبيل الفجر في كل المدن. الخبر الذي يشعل في قلوب الناس الغضب، لكن ما من غضب ما دام الفكر الغيبي يعشش كحاجز أمام أية إمكانية في تخليص الواقع من أسر الجمود: (وما أسعف الولي/ أهل البلد ..) ص 50
وفي الوقت الذي يعبر فيه الشاعر في قصيدة «ذاك المساء» عن شدة تعلقه بمدينته بوصفها حاضنة لكل ذكرياته نكاد نقبض، من خلال حوار الشاعر مع هذه المدينة التي تتخذ صورة معشوقته، على دلالة الطيف والتي تجد معناها في الريح والقرصان والماء والسؤال والدهشة المولدة للوعة الحياة والمعنى. في هذا المساق تنبثق الذات الشاعرة من الرماد كالفينيق منتصرة لسؤال الوجود معتبرة الحاضر مجرد لحظة لاجترار المآسي والجروح والرتابة، حاضر بلا أحلام، مفقوء العينين، إنه الزمن الذي يشهد الخيبات وانكسار أحلام الأمس على صخرة الحاضر. فلا شيء يعمر المكان سوى سيدة تستجيب لنداء الوجود، إنها السيدة القصيدة/ المدينة، بما تحيل عليه من دلالات جمالية وحضارية و تاريخية، حاضنة لطفولة الشاعر، إنها سيدة المكان التي ترعى الوجود وتقبض على معنى حائر، القصيدة/ الديوان التي تكشف جوهر الواقع وتستكنه أغواره عبر استدعاء للرمز والمجرد والإيهام والتوليف بين عناصر عديدة. هكذا تكون نصوص «حيرة الطيف» التي لا تغيّب المدينة بحضور أمكنة أخرى ولا تقيم تعارضا بين الأوزان والمعنى والمعرفة، تقطيرا لحيرة ودهشة وسؤال وهمس من أذن الوجود من أجل حيازته، حيازة تليق به جماليا وتصويريا، همس أراد أن يبوح من خلاله أحمد زنيبر : (برقة الماء/ والنبض يبسم بين الشفاه/ كم أحبك/ ذاك المساء) ص68

عبدالعزيز بنار/ القدس العربي

التعليقات مغلقة.