“دمشق ـ أنقرة” في حسابات الانتخابات التركية
عبّرت دمشق على مستويات متفاوتة وفي مناسبات مختلفة عن أن تطبيع علاقاتها مع أنقرة، بما في ذلك تنظيم قمّة بين الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، لن يتمّ قبل سحب تركيا قواتها من سوريا.
استقبلت موسكو الأسد في مارس الماضي تحت عنوان قيامها بوساطة لإجراء اللقاء بين الرئيسين. لكن الأسد، من هناك، وفي مقابلة مع “سبوتنيك” الروسية، أكد أن لا تطبيع ولا لقاء مع أردوغان قبل أن تنسحب تركيا من الأراضي الروسية.
والأرجح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يمارس ما يمتلكه من نفوذ في سوريا ولدى الرئيس السوري لدفع حليفه في دمشق للاجتماع بالزعيم التركي. والأرجح أيضا أن إيران، حليفة دمشق وموسكو وصديقة أنقرة والتي يردد قادتها ترحيبهم بالتقارب بين الحكومتين التركية والسورية، لا تدفع الأسد جدياً للموافقة على القفز باتجاه طيّ صفحة العداء بين النظامين ومصافحة الرئيس التركي وعقد لقاء علني معه.
ما يطالب به الأسد هو تماما ما يطالب به الطرفان الروسي والإيراني. فموسكو وطهران لا ترغبان ببقاء القوات التركية في سوريا، وتعتبران الوجود العسكري التركي (كما الوجود العسكري الأميركي) غير شرعي ولا يتمتع بسياق قانوني كالذي تتمتع به القوات الإيرانية والروسية. تذكّر طهران وموسكو دائما أن القوات الروسية و”المستشارين” العسكريين الإيرانيين متواجدين في سوريا بناء على طلب رسمي من الحكومة السورية.
لا تريد دمشق ولا تريد موسكو وطهران وجوداً عسكرياً لأطراف أخرى يقوي من نفوذها داخل سوريا وخصوصا على طاولة التسوية المقبلة. فحتى تركيا، التي لا تعترف موسكو وطهران ودمشق بشرعية وجود قواتها في سوريا، تطالب بدورها بانسحاب القوات الأميركية المنتشرة في نواحٍ مختلفة في سوريا، بما في ذلك شرق الفرات حيث تقدم العون والمدد والدعم لقوات سوريا الديمقراطية (قسد). ونذكر أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب كان قد قرر سحب قوات بلاده من سوريا في ديسمبر 2018 استجابة لطلب نظيره التركي في أعقاب اتصال هاتفي جرى بينهما قبل أن يتراجع عن قراره لاحقا.
لم تكن دمشق (وحلفاؤها) ترحب بتطبيع رئاسي مع أنقرة قبل جلاء ما ستسفر عنه الانتخابات في التركية. لا كيمياء أصلاً بين الأسد وأردوغان تسهّل من هذا التطوّر ولا مصلحة للرئيس السوري بالتقاط صورة مشتركة مع أردوغان قد يستخدمها الأخير عونا في حملته الانتخابية. ومع ذلك فإن ما بعد تلك الانتخابات غير ما قبلها، وسيكون على الأسد التعامل بشكل ما مع من سيخرج من صناديق الاقتراع رئيساً، رغم أن دمشق تفضل فوز مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو.
يختلف المرشحان، أردوغان وكليجدار أوغلو، اختلافاً جذريا وعقائديا في الموقف من الصراع في سوريا والنظام في دمشق. لم توافق المعارضة التركية على سياسة أردوغان العدائية ضد نظام دمشق وسياسة دعم المعارضة السورية وسياسة احتضان ملايين من اللاجئين السوريين في تركيا. وكانت وفود من تلك المعارضة تزور دمشق وتلتقي بالأسد هناك، فيما كانت أنقرة تمدّ قوات المعارضة، أو بعضها، بالمدد والعون والسلاح.
ولئن طالبت المعارضة التركية بسياسة بديلة عمادها إعادة الوصل مع النظام السوري، فإن أردوغان اضطر في الأشهر الأخيرة، ولأسباب موضوعية وأخرى قد تكون انتخابية، إلى انتهاج سياسة انقلابية لإعادة تطبيع العلاقة مع حكومة دمشق، فعُقدت لقاءات على مستويات مخابراتية وأمنية وعسكرية وصولاً إلى سياسية في الاجتماع الذي ضمّ وزيري خارجية البلدين في 10 مايو في موسكو (بحضور نظيريهما الروسي والإيراني). ولم يرقَ الأمر إلى مستوى عقد قمّة بين رئيسي البلدين.
والواقع أن السلوك الأردوغاني الجديد يتكامل مع استدارة استراتيجية في السياسة الخارجية التركية أسفرت في المنطقة عن مصالحة بين تركيا وكل من السعودية والإمارات والذهاب بهذا الاتجاه مع مصر. بمعنى آخر، فإنه قد لا يكون دقيقا أن خلفية المقاربة التركية الجديدة للعلاقة مع دمشق هي انتخابية فقط، وسيكون مرجّحاً أن تستمر هذه السياسة حتى في حال احتفظ أردوغان بمنصبه رئيسا بعد الانتخابات.
صحيح أن كليجدار أوغلو يطلّ على المسألة السورية من موقع معارض لأردوغان واعدا بعلاقات حميمية مع دمشق، غير أن ما يقترحه زعيم المعارضة يشوبه شيء من الشعبوية والتبسيط. فالرجل يَعِد بتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين حكومته، في حال أصبح رئيسا، وحكومة الأسد في سوريا، وتوقيع بروتوكول معها لضمان سلامة اللاجئين السوريين العائدين، وجعل الشركات التركية تعيد إعمار سوريا بتمويل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. غير أن خطّة من هذا النوع لا تحتاج فقط إلى إرادة العاصمتين، فدونها وجود تسوية سياسية سورية تبدو مستحيلة حتى الآن.
يريد كليجدار أوغلو كما أردوغان بيع ناخبيهما خططا لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. تشجع دمشق نفسها هذا السجال، الذي يثار أيضا في الأردن ولبنان، لعلّ في هذا الضجيج ما يحثّ الدول المانحة، العربية والأجنبية، على ضخّ الأموال اللازمة لإعادة الإعمار واللاجئين. وإذا ما كان كليجدار أوغلو يمنّ النفس بانخراط الشركات التركية في ورشة إعادة الإعمار بتمويل أممي أوروبي، فإن لهؤلاء الممولين المفترضين شروطاً ما برحوا يرددونها ويكررونها من دون كلل.
وإذا ما ذكرّ بيان أميركي بريطاني ألماني فرنسي في 16 مارس الماضي بأن أمراً كهذا يحتاج إلى تسوية سياسية تكون المعارضة جزءا منها وفق قرار مجلس الأمن 2254، فإن كل البيانات التي صدرت مؤخراً في سياق التطبيع العربي مع دمشق، أشارت إلى ما هو إنساني وما هو إغاثي وما هو متعلّق بعودة اللاجئين، لكنها تكاد تكون اشترطت المضيّ نحو التسوية السياسية حلاً وحيداً للأزمة في سوريا.
وفق تلك الثوابت قد لا يحمل مرشح المعارضة التركية تحوّلا كبيرا في تناول الشأن السوري يختلف عن ذلك المتحوّل في سياسة أردوغان الجديدة تجاه دمشق.
ناهيك من أن “المسألة الكردية” في العقائد السياسية التركية، سواء لدى حزب العدالة والتنمية الحاكم أو حزب الشعب الجمهوري الذي يتزعمه كليجدار أوغلو المعارض، تملي على الحاكم في أنقرة، في غياب التسوية السورية، سياسة أمنية عسكرية في شمال سوريا لا يبدو أن مرشح المعارضة الرئاسي كان واضحاً في عزمه على الانقلاب عليها والذهاب إلى الانسحاب من سوريا استجابة لما يطالب به الأسد.
محمد قواص
المصدر: سكاي نيوز عربية
التعليقات مغلقة.