قراءة في فنجان تصادم الجنراليْن
رغم مضي بضعة أيام على حُريْبة الجنراليْن، يواصل الجانبان المنازلة ثم يستأنفان بعد هدنة هشة إشعال أجواء الخرطوم وبعض المدن دخاناً بفعل أنواع من القذائف يطلقونها. وما يحفزهما على مواصلة الاحتراب ليس اشتداد السواعد التي تعبت وإنما لأن أهل القرارين العربي والدولي لم يحسما الأمر، وما زالوا في مواقفهم يتمنون فقط على الجيشيْن المتحاربيْن وقْف الاقتتال، وهذا قرار ضمني بأن المسألة ليست تمرداً أو عصياناً من جانب طيف عسكري مستحدَث على طيف عسكري عريق. وحتى رغم ملامسة الاقتتال مخاطر على أجانب ورعايا عرب أمكن إجلاء العشرات منهم في طوافات عسكرية أميركية وألمانية بعد إجلاء في باخرة سعودية إلى جدة، ولقي فيها المجْلون من جنسيات عدة حفاوة ورعاية وطمأنينة، فإن المواقف العربية والأفريقية والدولية لم تتجاوز التمنيات في انتظار النتيجة الحاسمة. وفي هذا يبدو أصحاب المواقف مثل الطبيب الذي لم يكتشف علة مريضه عند الفحص الأولي، وأرسله إلى المختبر والتصوير الشعاعي بأمل معرفة الداء فيصف الدواء.
وإلى المواقف الخارجية المشار إليها، نجد رموز الطيف السياسي والحزبي في السودان يلتزمون الصمت والاكتفاء بالمتابعة كما سائر العرب والأجانب، من خلال الفضائيات في حال استقرار التيار الكهربائي على حال للوقوف على ما يعلنه كل من «الجيشيْن» عن إنجازاته أو تبثه الفضائيات من صور لجنرالي الحُريْبة وللمواطنين التائهين الباحثين عن ملاذ آمن، فلا يتداعى الرموز أولئك إلى مؤتمر ينعقد على وجه السرعة، ويتخذ هؤلاء موقفاً يشكِّل ملامح حل للأزمة التي شاركوا أصلاً في صُنْعها وأدى ضعف الطروحات التي سجلوها والاستهانات بالطيف العسكري إلى ما وصلت إليه الأمور راهناً، والأرجح أن تصل لاحقاً إلى أن مجموعة من ضباط الجيش، وبينهم بعض أعضاء المجلس العسكري الواقفين إلى جانب الفريق أول عبد الفتاح البرهان سيخترقون جدار التخبط الحاصل، وتبدأ معهم تجربة جديدة. وهنا يكون رموز الطيف السياسي فوّتوا بعدم التعاون في بداية الأزمة فرصة مع المجلس السيادي عدم صمود صيغة المجلس العسكري الانتقالي ورئيسه الجنرال أحمد عوض بن عوف، واستبدال الصيغة بمجلس يترأسه البرهان، ويرتاح الصف المتقدم من ضباط الجيش إلى هذه الصيغة.
إلى ذلك، من المهم العودة إلى كلام قيل ماضياً ويساعد في التفسير حاضراً، ونحن كما القراءة في الفنجان نحاول العثور على تفسير لما هو حاصل في السودان على مدى أشهر بالغة القساوة على شعب يكابد بكل أنواع التحمل، بدءاً بيوم 19 ديسمبر (كانون الأول) عند حدوث شرارة الانتفاضة على نظام الرئيس عمر البشير احتجاجات ومظاهرات في العاصمة وسائر الولايات، وصولاً إلى يوم الأربعاء 19 أبريل (نيسان) 2023 (ما هذه المصادفة للرقم 19) الذي هو يوم احتراب الجيشيْن بصيغتيْه الرسمية والإسنادية وبرأسيْه الجنرال البرهان والجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي). ولقد استوقفني كمتابع لما يحدث في السودان ماضياً وحاضراً ودائماً، وكنت أنجزتُ كتاباً جديداً لي (صدر في يونيو/حزيران 2020) عن الذي حدث تحت عنوان «الحاكم إذا استبد والشعب إذا انتفض. مشهدية السودان الخائر… الثائر… الحائر».
هناك كلام نقله عن الجنرال حميدتي الذي استقر التسليم بدوره كشريك للجنرال البرهان؛ وذلك بتسميته «نائب رئيس المجلس السيادي»، زميلنا مراسل «الشرق الأوسط» من الخرطوم أحمد يونس ونشرتْه الصحيفة في عددها الصادر يوم الثلاثاء 28 يوليو (تموز) 2020. كان حميدتي وبصفته التي كانت غير ظاهرة لنا كمراقبين «رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية» يعاونه فيها رئيس الحكومة عبد الله حمدوك (رئيس بالنيابة لها)، وتضم في عضويتها عدداً من كبار المسؤولين والوزراء، ومهمتها على نحو ما قرأناه في رسالة الزميل أحمد يونس «استعادة عافية اقتصاد البلاد واتخاذ إجراءات حاسمة عاجلة لمعالجة اختلالات الاقتصاد». ولقد استقال الجنرال حميدتي بعد انتقادات بعض السياسيين لترؤسه هذا المنصب الحساس لجهة فاعليته، باعتبار أنه يعادل في تأثيره محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً التأثير الذي لرئيس المجلس السيادي، بل إن تأثير المال والاقتصاد يتساوى مع تأثير القدرات العسكرية؛ ذلك أنها مستقرة بفعل الاهتمام المالي والاقتصادي بها. لكن حميدتي ما لبث أن استعاد منصبه البالغ الحساسية عندما يتزامل مع منصبه الآخر قائداً لـ«قوات الدعم السريع».
هذه المكانة للجنرال حميدتي مستملكاً المنصبيْن المؤثِّرين نيابة رئاسة المجلس العسكري السيادي ورئاسة سُلطة اقتصادية لا يملك البرهان سُلطتها، كما أنها فوق سُلطة رئيس الحكومة حمدوك الذي باعه الاقتصادي الأكاديمي يؤهله ليكون هو المرجع الأعلى لـ رئاسة «لجنة الطوارئ الاقتصادية»… هذه المكانة تعني أنه بات الرجل القوي في المرحلة غير المحسوم مصيرها، وهذا يشعل نفوس بقية أعضاء المجلس السيادي، وبالذات كبار الرتبة منهم غيظاً وحسداً مكتوميْن إلى حين.
ما قاله الجنرال حميدتي في كلمة ألقاها أثناء حفل لبدء تصدير طنين من الذهب وتدشين «بورصة الذهب السودانية» يفسر في ثنايا بعض العبارات لمحات من «حُريْبة الجيشيْن» بدءاً من الأربعاء 19 أبريل 2023 والمتواصلة نيران أسلحتها الخفيفة والثقيلة.
في الآتي عبارات وردت في الكلمة التي ألقاها الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) بالصفتيْن المزدوجتيْن: نائب رئيس المجلس السيادي ورئيس «لجنة الطوارئ الاقتصادية» مع ملاحظة أن هذه اللجنة أنشئت بعد انقضاء بضعة أشهر على تسلُّم الثنائي العسكري «الجيش» برئاسة البرهان و«قوات الدعم السريع» برئاسة حميدتي. وهذا يعني أنه بورقة شأنه في عملية التغيير ووفْق المحاصصة في المسؤوليات – المناصب؛ طلب أن يكون مركز الشأن الاقتصادي للدولة في يده وبكامل الصلاحيات، ما دام رئيس الحكومة تحت إمرته وبتسمية «رئيس مناوب» وهي تسمية منتقاة بدقة بمعنى أن لا نيابة له وإنما مجرد تكليف.
ما قاله الفريق أول العسكري – الاقتصادي حميدتي بالفصحى والعامية:
• «البلد تسيطر عليها (مافيا)، بل عصابة كبيرة جداً. ويجب أن نحاربها لأن البلد لن يتقدم. هم عاملين فيها أشراف ونظيفين لكنهم حرامية ومجرمين».
• «الناس تعمل على تدمير في البلد وأُقسم (ثلاثاً) سيأتي يوم يندمون ويظهر الحق. لن نتركهم. أتركوهم ينفِّذون كلامهم. نحن نسمع بتصفيات وتهديدات ونقول: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا».
• «المحتجون والمثبِّطون الذين يزعمون أن رئاستي للجنة الاقتصادية ليست من اختصاصنا. وأقول مَن هو الحريص على البلد؟ مَن يشتمنا أو الذي يعمل على رفْع سعر صرف الجنيه ولا يريد للحكومة السقوط».
• «لم نأتِ لدعم أحزاب أو جهات. هدفنا حماية البلد من الانهيار».
• «طلبتُ من رئيس الوزراء ووزير المالية مراجعة شركات تعدين الذهب لا تدفع الضرائب أو العوائد وكشْفها أمام الإعلام. كل شطارتهم في (الجنيْد)، (الشركة المملوكة له ولشقيقه الذي هو نائبه عسكرياً) وهي ليست المشكلة، بل المشكلة في (المافيا) التي لا تعرف أن (الجنيد) تعرف أسرارها».
• «ستتم خطوات تتضمن سياسات صارمة لمنع التلاعب وتهريب الذهب. سيبدأ تفعيل مبدأ المحاسبة ومراجعة القوانين والتشريعات المتعلقة بإنتاج وتصدير الذهب، وكذلك مراجعة رُخَص شركات الامتياز الأجنبية. شركات امتياز تستخرج 300 كيلوغرام في الأسبوع، لكن لا أثر لها في إنتاج الذهب الكلي. ستعمل (لجنة الطوارئ الاقتصادية)، (التي يترأسها) على محفظة اقتصادية وبورصة لتجارة الذهب وخلْق نافذة اقتصادية موحدة».
• رجل (يقصد المواطن السوداني) عنده ذهب يشحذ. نحن مصابون بغضب ولعنة ولا نعرف ما هو مرضنا. هناك بنوك عندها احتياطي من ذهبِنا، فلماذا لم نعمل احتياطي ذهب. هم يستخسرون علينا ذهَبنا…».
في ضوء هذه الأقوال التي لا تحديد لأسماء المستهدَفين، وهل هم من جنرالات في الجيش لم يتحملوا ثنائية الجيش؟
في هذه الحال يصبح الجيش أمام حالة غير مسبوقة، لا من حيث الأصول العسكرية ولا من حيث التقاليد ولا من حيث التراتبية. وفي هذه الحال أيضاً، لا يعود الصراع ذهباً وتعديناً وإنما الاستحواذ على السُلطة. هكذا فعل الشيوعيون ودفعوا الثمن وكانوا لا أحد يستطيع غيرهم تحقيق ذلك الاستحواذ ما داموا جنَّدوا ضباطاً في الجيش… إلى أن ركب الموجة الشيخ حسن الترابي (الراحل) بصيغة تشبه تلك التي اعتمدها البعثيون في العراق وسوريا عندما زرعوا شتلة في المؤسسة العسكرية ما لبثت أن باتت شجرة أثمرت كما في سوريا واليمن والسودان لاحقاً. وفي الحالات الثلاث، بلغ السيل الحزبي الزبى، واهتزت الأوطان أيما اهتزاز. وها هو الغضب والإغضاب سيدا الموقف في الدول المشار إليها إلى جانب حالة من النسيج نفسه مع اختلاف في الحياكة يعيشها لبنان دولة ضعيفة مقابل دويلة قوية وتعيشها الفلسطينيتان: السُلطة الشاكية في رام الله والسُلطة المشكو منها في غزة.
وكبقية قراءة في فنجان الغضب السوداني التي ترسم رموزه في هذه الأيام الحافلة بالقصف والدخان والضحايا مأساة غير مسبوقة في التاريخ السوداني المخضرم، أجد نفسي أستحضر من الذاكرة مرحلة صراع عايشتُها وواكبتُ يومياتها ميدانياً وفواجع رموزها ووثقتُ تلك المرحلة بكتاب يحمل تسمية «الحزب الشيوعي السوداني نحروه أم انتحر». كان ذلك قبل نصف قرن. وحتى الآن ما زال الأخ السوداني عندما نتبادل التصافح يناديني بـ«نحروه أم انتحر» بدلاً من اسمي. هل يا ترى عندما نتقابل بعد الآن وقد أمعن إياهما (جنرالا الحُريْبة) جَلْداً في السودان الشعب والعيش المشترَك سأُنادى بدل الاسم بسؤال «ما الجديد في فنجان حُريْبة الجنراليْن… يا زول»؟
حمى الله السودان الذي كان في أحسن حال زمن الصراع الحزبي الراقي بين طائفة «الأنصار» بـ«مهديْها» الصادق بعد الهادي والختمية الميرغنية بـ«سيديْها» أحمد بعد عثمان، على الجميع الرحمة واستُعيد الرشد إلى مَن يتوه عن الصراط المستقيم عسكرياً كان أم مدنياً؛ هدياً بقول الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم «لا يُشِيرُ أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار»… أو بأسلوب الشاعر البحتري مخاطباً حُريْبيي زمانه والأزمان التالية بالقول «إذا احتربتْ يوماً فسالت دماؤها… تذكرتِ القربى ففاضت دموعها».
ومَن يتعظ سودانياً كان… أم يمنياً يفعل ذلك. في انتظار الذين يعقلون فيرضى رب العالمين والشعب عليهم.
المصدر: الشرق الأوسط
التعليقات مغلقة.