نهاية زمن «الأسود والأبيض» السوري

37

Nawafez7.gifحتى الآن لم تنفع توسلات النظام السوري، ومن ثم تهديداته باستهداف الطائرات الغربية التي ستقصف «داعش» السورية، في دفع التحالف ضد «داعش» إلى الاستعانة به، ومنحه الشرعية جراء ذلك. مع بداية الحديث عن إنشاء التحالف، ظهر محور الممانعة سعيداً، فلحظته قد حانت أخيراً، وبات بوسعه التحالف مع «الشيطان الأكبر» والدولة العظمى الراعية للإرهاب.. وما إلى ذلك من أوصاف مخصصة لأميركا. إلا أن الشيطان الأكبر بقي على عهده، ولم يقدّم شهادة حسن سلوك للممانعين، ولم يأخذ في الاعتبار أيديهم الممدودة، وليست سابقة ألا تبالي القوى العظمى بالأيدي المستغيثة للغرقى.

إلا أن توسل الانضمام إلى التحالف الدولي ضد «داعش»، أو الوقوف ضده، لن يكونا سهلين على أنصار النظام السوري. فالنظام منذ بداية الثورة اتهم الإدارة الأميركية والغرب عموماً بمساندة المعارضة، ولأنه اتهم الأخيرة بالإرهاب فهو قد اتهم الأولين بمساندة الإرهاب رافعاً شعار مناهضة التدخل الخارجي في الشأن السوري، ولن يكون سهلاً على أنصاره تفهم قبول التدخل العسكري الغربي، ونسيان عدائهم المعلن للغرب بسهولة. إعلام النظام كان يعدّ الرواية عن أنه سبق الجميع في الحرب على الإرهاب، وها هم أتوا أخيراً ليلتحقوا به، غير أن هذه الدعاية لم تكن لتنفع، لأن دعايته السابقة المضادة للغرب لم تتوقف عند حدود الثلاث سنوات ونصف الأخيرة، بل تجاوزتها طويلاً لتنبش مقومات العداء التاريخي المزمن.

عدم قبول الغرب بالتحالف مع النظام ضد «داعش»، لا يعني أيضاً عودة الانسجام إلى رواية النظام، ومن ثم إلى نفوس مؤيديه، فمسؤولو النظام استخدموا فوراً لغة الوعيد، مهددين بإسقاط الطائرات التي تخترق الأجواء السورية، أي أنهم سيستهدفون الطائرات التي تستهدف «داعش»، ما يضعهم واقعياً في مرتبة التحالف مع «داعش». ولعل أكبر إهانة تلقاها مؤيدو النظام هي ما نُقل عن الرئيس الأميركي من أن ضرب الدفاعات الجوية للنظام أسهل بكثير من ضرب داعش، فالرسالة هذه تتجاوز الاستهانة بتهديدات المسؤولين، إلى الاستهانة بوضع النظام ككل، والقول بأن قوته أقل من قوة تنظيم إرهابي مستجد.

لقد قسم النظام ومؤيدوه العالم إلى «فسطاطين»، هم وحلفاؤهم في محور الخير والآخرون بطبيعتهم في محور الشر. الآخرون شريرون وإرهابيون ومنخرطون في مؤامرة كونية على النظام، وهم من اشترى بالمال ملايين الخونة من السوريين؛ ساعدهم في ذلك القسمة المشابهة التي أقامها أولياء النظام مع العالم، بسبب عداوات قديمة أو مستجدة مع الغرب. تقسيم العالم بالأسود والأبيض، أسوة بما يفعله المتطرفون من كل حدب وصوب، يلغي إمكانية السياسة في الداخل أو الخارج، لذا يبدو هذا الخطاب منسجماً تماماً مع الوحشية التي لاقى بها النظام جموع المتظاهرين السلميين، في الأشهر الأولى للثورة، ومنسجماً تماماً مع الوحشية المفرطة في قتل وتدمير أحياء أو مدن كاملة. «داعش» أيضاً يتبنى الخطاب نفسه، إذ يقسم العالم إلى فسطاطين، ديار الإسلام وديار الكفر، وذلك بالضبط ما يجعل منه تنظيماً محض إرهابي.

بعد ثلاث سنوات ونصف من انطلاق الثورة، لم تعد نعمة الأسود والأبيض متاحة لجمهور الموالاة، فنغمة إنكار موبقات النظام التي راجت في البداية راحت تنحسر، وبدأ فكرة الموالاة تتغذى من نسبوية تُقام بين ممارسات النظام وأخطاء المعارضة، أو أخطاء مزعومة لها. صار تبرير الموالاة ينص بمواربة أو بدونها على أن النظام هو الأقل سوءاً بالنسبة لجمهوره، فضلاً عن أن الأقل سوءاً لم يعد قادراً على حماية أنصاره، ولعل أكبر صدمة لاقاها جمهور الموالاة هو تمدد «داعش» وتهديدها للنظام بعد أشهر من النظر إليها كنيران صديقة. لقد ظن الموالون أن تمدد داعش سيعيد الزمن الجميل للأسود والأبيض، بما أن العدو لا يخفي سواده، لكنهم فوجئوا بأن العالم لا ينظر إليهم كنقيض لداعش، وبأن العالم لا يعيش في زمن الأسود والأبيض وحسب.

ما يصح على جمهور الموالاة يصح أيضاً على بعض جمهور المعارضة، إذ لا يخفى ذلك الارتباك في صفوف الأخيرة، جراء التحالف الدولي ضد «داعش». بعض المحسوبين على المعارضة لم يخفِ عداءه للحلف، إما ضمن عصبية أيديولوجية لا تفرق بين إسلام داعش أو الإسلام عموماً، أو ضمن عصبية أخرى لا ترى عدواً سوى النظام، والأكثر عقلانية من بين الاعتراضات، تلك التي تتضمن خشية استفادة النظام من الحرب على «داعش»، من دون البحث في الطرق التي ينبغي فيها للمعارضة أن تستثمر الحرب؛ الأخيرون يتناسون أن «داعش» تمدد أولاً وبحدوده الأكبر على حساب فصائل المعارضة الأخرى وليس على مناطق سيطرة النظام. هنا أيضاً يلوح تقسيم للعالم إلى فسطاطين؛ واحد إسلامي يتبنى ضمناً تقسيم «داعش» بين ديار الإسلام وديار الكفر، وآخر سياسي لا يرى سوى القسمة بين المعارضة والنظام، على رغم اكتظاظ الساحة السورية باللاعبين ذوي الأجندات المختلفة.

ثم، إن أخطاء المعارضة لم تعد قابلة للتغاضي عنها، سواء ما يتعلق برهاناتها أو بفساد بنيتها، الأمر الذي يدفع بعض أنصارها إلى استلهام النسبوية السابقة معكوسة، أي مقارنتها بالشر المطلق المتمثل بالنظام. وفق هذا المنظار، فقدت المعارضة أحقيتها الأخلاقية المفترض حصولها من برنامجها السياسي وطرق تنفيذه لتعتاش على فظائع النظام وخطاياه، وإذا كانت ثمة وعي للتفريق بين المعارضة والمثل التي انطلقت من أجلها الثورة، فهو لم يصبح قيد التأثير ليطيح أطر المعارضة الحالية. بل يكاد هذا الوعي المخلص للثورة ألا يلحظ الانقسامات العميقة الحاصلة في المجتمع السوري، والتي تجاوزت الانقسام الأول بين موالاة ومعارضة، انقسامات من شأنها الإجهاز على بعض مثل الثورة نفسها، فتبدو فكرة الثورة كأنما باتت من زمن الأسود والأبيض في واقع يتشظى بين مختلف الألوان.

قد يكون من «فضائل» الحلف الدولي ضد «داعش» على السوريين صعوبة الاصطفاف معه أو ضده بلا تحفظات، فذلك أدعى إلى فهم السياسات الدولية وعدم تبسيطها بحسب الرغبات المحلية، وأدعى إلى فهم مصالح الآخرين بدل انتظار اغتنام الفرص من خلالهم. لا يخفى هنا انتظار جمهور النظام فرصة التدخل الخارجي لمساندته، ولا يخفى انتظار المعارضة المناسبة نفسها عسى أن تقلب الموازين على الأول، إلا أن ما توضحه استراتيجية التحالف أنها لن تكون في هذا المقلب أو ذاك، ومن المرجح أن تكون مفيدة لمن يحسن التعاطي مع متغيراتها على الأرض، هذا إن لم نقل إن القضاء على «داعش» لا يمكن إلا أن يكون نافعاً كخطوة أولى للقضاء على إرهاب النظام، لمن لا يريد الاستقالة من واجباته.

التشرذم الذي وصلت إليه الحالة السورية بعد ثلاث سنوات بات مضرباً للمثل، وهو أمر ليس مستبعداً بعد خمسة عقود من الاستبداد، الذي أجبر السوريين على أن يكونوا متشابهين. الثورة كانت أول فأس يُضرب في فكرة التشابه، فهي قد بينت لطرفي الثورة والموالاة أنهم ليسوا واحداً، وأن المدخل إلى سوريا الجديدة هو بالضبط الإقرار المتبادل بأنهم ليسوا واحداً. استمرار الصراع وتداعياته كان لا بد لهما أن يُبرزا التباين ضمن كل خندق أيضاً، والتدخلات الخارجية المتباينة لا بد لها أن تؤدي الغرض ذاته. ضمن هذه اللوحة المعقدة؛ لا يندر، ولا يضير الواقع بشيء، أن تنتعش موجات من الحنين، بعضها إلى زمن التماثل العمومي، وبعضها إلى زمن التماثل ضمن الخندق الواحد. في الحالتين، الأمر لا يتعدى ما يفعله كهل يجلس على كرسيه ليستعرض ماضيه بالأسود والأبيض، بينما الحياة أمامه تستمر بالألوان.

عمر قدور/عن المستقبل اللبنانية

التعليقات مغلقة.