جرن الذاكرة…كاويس آغا من عدم القدرة على النطق إلى آغا الأغنية الكُردية

489

جرن الذاكرة1زاوية يكتبها: ولات أحمي

إن المتابع والقارئ للسّير الذاتية للعديد من أباطرة الكُرد، يلاحظ أن القاسم المشترك بين هؤلاء الأباطرة هو الجوع والفقر، الهجرة والحرمان. ورغم فرط المعاناة ومرارة هذه القواسم، إلا أنها كانت دوافع لخلق حالة من الإبداع، وهذا تماماً ما حدث مع الحنجرة الكُردية كاويس آغا.
 
الطفل ويس، ولد عام 1889، في سهول (Çarçelê -جار جه لى) لعشيرة الهركية- Herkîyan”، الكثيرة الترحال بين شرقي وجنوبي كردستان. والده أحمد بن جميل كانبي الهركي، ووالدته ليلى. توفي والده وهو في العاشرة من عمره، فعمل راعياً وعانى من الفقر والجوع. وفي الثالثة عشر من عمره فقد القدرة على النطق بشكل سليم، جراء التأتأة والتلعثم، حيث تقول بعض الروايات بأنه أصيب باضطراب كلامي، على خلفية سقوط كتلة من الثلج فوق رأسه وهو في طريقه نحو إيران. وفي رواية أخرى يحكى بأنه سقط من فوق ظهر الحصان وهو في طريقه للمطحنة، ليبقى ساعات طويلة تحت رحمة الثلج المتساقط بشدة. والمذهل في الأمر، كان يتغلب على التأتأة والتلعثم عن طريق الغناء، ففي الحياة العامة كان يعاني من صعوبة في الكلام، وعندما كانت حنجرته تصهل في فضاء الأغنية، كان يبدو إنساناً سليماً دون أي اضطراب في الكلام!.

عند وفاة والدته، ومع صياح وعويل النسوة، تأثر كاويس بصوت Fatma Derwêş التي كانت تنوح وتندب وترثي والدته. كاويس، قبل أن يتفجر لديه منبع الإبداع كان يرزح تحت وطأة ظروف معيشية صعبة، يعاني من قسوة فقدان الوالدين، يتذوق الفقر، ويلعق الجوع. تلك الظروف كانت مصدر ألم وأسى، وفي تمام اللحظة كانت أدواتا ومصدرا لبناء وتدشين حنجرة يقتات منها خواطره وشجونه وهمومه.

في عام 1915، ترك الرعي وتوجه نحو منطقة راوندوز، واستقر به المقام في منزل “نوروز باويل آغا” حيث أصبح مغني ديوان الآغا. وبعد عام انتقل إلى شقلاوة، وهناك تزوج من أمينة بنت محمد شريف، ومنها رُزق ب أحمد، محمد، عبدالله، وجميل.

بدأ مشواره الفني في الأمسيات، وديوان الآغوات. تميز بغناء “اللاوك”، وهي أغاني المقاومة والحرب. تقلد اسم كاويس آغا من قِبل كُرد بهدينان، الذين كانوا ينعتون الأكبر عمراً بــ Kak، من مبدأ التقدير والاحترام، وعندما تقلد ويس منصة الفن أصبح اسمه كاك ويس- Kak Weys، ومع مرور الأيام اختصر اسمه إلى Kawîs. بينما أضيفت كلمة آغا إلى اسمه من قبل إحدى شركات التسجيل، تكريماً وتقديراً له.

لاحقاً، في عام 1930، توجه إلى العاصمة العراقية بغداد، حيث شركات بيزافون، نايف ونعيمي، لرغبته في تسجيل كاسيت، وفي إحدى شركات التسجيل رفضه صاحب الشركة عندما سمعه كيف ينطق بصعوبة، وأكد له بأنه لا يصلح للغناء مطلقاً. في تلك اللحظة توجه كاويس إلى مقهى مقابل للشركة، وبدأ بغناء أغنية “Genc Xelîl” فتجمهر حوله الناس، وركض صاحب الشركة نحو مصدر الصوت، فاندهش عندما وجد كاويس آغا هو صاحب الصوت العذب، اعتذر منه وطلب منه التفضل نحو الشركة لتسجيل أغنيته.

آغا الأغنية الكُردية، لم يكن يعرف القراءة والكتابة، كان ذو نفس طويل في الغناء، وتمتع بطبقة صوت حادة، وامتاز بطريقة مبدعة جميلة في قفل المقطع الغنائي، بإصدار نبرة ممتعة واضعاً حداً لنهاية المقطع، لينتقل إلى المقطع اﻵخر بكل انسياب وسلاسة.

كاويس، تجول وغنى في شرق وجنوب وشمال كُردستان، زار الشيخ محمود الحفيد، واسماعيل آغا شكاك، وغنى لهم وعنهم. ويعتبر بمثابة شاهد عيان على الأحداث التي وقعت في عهد الشيخ محمود الحفيد، وثورة اسماعيل آغا شكاك، الذي رثاه بكلمات مفجعة عندما قُتل على يد الإيرانيين.

نتاجه الفني تم تسجيله في43 كاسيت، وأُرشفت من خلال القسم الكُردي في إذاعة بغداد. وتكريماً له، أُسدِل الستار عن تمثاله في شقلاوة، من قِبل وزير الثقافة السابق في إقليم كردستان العراق، فلك الدين كاكائي.

في منتصف شهر شباط 1936، وفي زيارة لقرية “هرشه مه – Hersme” أصيب كاويس  بوعكة صحية، وهناك رحل عن وجه هذه البسيطة، ودفن فيها في ليلة ماطرة، تاركاً حنجرته في جعبة الذاكرة الكُردية بكل قوة.

نشرت هذه المادة العدد 60 من صحيفة “Buyerpress”

بتاريخ 1/3/2017

33311

 

التعليقات مغلقة.