الكتابة الغاضبة – هيثم حسين

32

 

الواقع امتحان الكتابة ومحكّها، والكتابة التي لا تتفاعل مع هذا الرعب الذي يتهدّد الإنسان تتهاوى أمام تصدّر المحن.

 _74أن تكتب وكأنّك تمشي على نصل سكّين حادّة، وفي الأسفل نيران مستعرة تنتظر سقوطك لتقضي عليك. أن تسير في حقل ألغام موقوتة تتربّص زلّة قدم لتنفجر بك. أن تمضي في أرض رمال مخادعة تغافلك في أيّة لحظة وتغمرك في دوّاماتها. أن تبحر في مياه تتحوّل فجأة إلى بركان يتلظّى.. فرضيات تشير إلى وجوب التنبّه والتدقيق نظرا لخطورة ما تمارسه من فعل حين تكتب.

هكذا تكون الكتابة في المراحل التاريخيّة المفصليّة، وربّما هذه المغامرة من سمات الكتابة الملازمة لها. الكاتب لا ينقل ما يعترك في داخله فقط، بل ينقل معارك محتدمة في دواخل الآخرين أيضا، يصوّر الصراعات والتداخلات الرهيبة والسمــوم المتفشّية في الأجساد والأرواح.

قد تغدو الكتابة بحدّ ذاتها سمّا، تنقل فيروسات التسميم وتعكّر صفو الأذهان، وذلك حين تجيّر في خدمة أهداف تنصبّ في خدمة الطغيان، وحتّى التي تنأى بنفسها عن تعرية الزيف والإجرام، تخون رسالتها، وتوضع في خانة الكلام العبثيّ المتنصّل من المسؤولية.

بعيدا عن مجادلة مقولات تفرّغ الكتابة من محتواها، وتجعلها زخرفات أو إكسسوارات لتزيين الصالونات، فإنّ الواقع يفرض نوعا من الكتابة بغضب، والكتابة الغاضبة لا تعني الحماسيّة أو المجيّشة أو المسعّرة لنيران الأحقاد، ولا تلك التي تدين بإطلاق دون توثيق أو تحقيق.

ربّما تكون تلك الدامية المعبّرة في جوانب منها عن الغضب المتعاظم في النفوس، ردّا على حالة التيه والدمار، وبحثا عن اختراق لصمم معمّم، وهي تصميم على إكمال المواجهة بأعتى الأسلحة؛ التي هي إرادة الإنسان الحرّة السامية التي لا تحدّها حدود.

قد يقول قائل إنّ الحديث عن مواجهة مفتوحة ضدّ الطغيان بكلّ أشكاله؛ الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، مثار استهزاء ومراهقة ثوريّة وأحلام طفوليّة عابثة. لكن ألا يكون في الرضوخ لسلطة الأمر الواقع تعاميا عن الجرائم وخيانة لرسالة الأدب والكتابة والفنّ الإنسانيّة..؟ ألا تكون الاستعانة بالتزويقات اللغويّة المتهرّبة من الاستحقاقات التاريخيّة والواقعيّة والمستقبليّة تسطيحا لفعل الكتابة المتحدّي الرافض للإهانة والإذلال..؟ كيف بالإمكان رؤية المشاهد الكثيرة التي تجرح القلوب والأرواح ومن ثمّ الكتابة بهدوء وأريحيّة..؟

الواقع امتحان الكتابة ومحكّها، والكتابة التي لا تتفاعل مع هذا الرعب الذي يتهدّد الإنسان تتهاوى أمام تصدّر المحن وتندثر في مهبّ الغضب المتجدّد. ربّما بات الغضب ملح الكتابة في زمن الحرب، غضب على ما جرى وما يجري، غضب لإطلاق صفّارات الإنذار لتدارك الهاوية المتناسلة من رحم الفجائع. غضب الحرّ على قيود العبوديّة الخانقة.

كاتب من سوريا

التعليقات مغلقة.