هل وصل «ماء الفضة» إلى «مهرجان كان» بقوة السينما أم بقوة السياسة: هكذا صودرت حكاية وئام بدرخان!

243

28qpt968.5ما إن يصحو المرء من هول وفظاعة مشاهد الفيلم التسجيلي السوري «ماء الفضة» حتى يسأل: «ولكن أين الفيلم؟». فالمَشاهد البالغة التأثير ستظل كذلك أينما حلّت، بمونتاج أو من غير مونتاج. مشاهدة الفيلم، والنظر إلى التتابع الجديد لصور نعرف بعضها من قبل عبر اليوتيوب، لا تقدّم جواباً شافياً. لن يطول بنا الأمر حتى نكتشف أن الضجة التي أثيرت حول الفيلم أخيراً، إثر وصوله إلى «مهرجان كان السينمائي» في دورته السابعة والستين، ما هي إلا نوع من تضامن مع قضية السوريين (وهو أمر مفرح على أي حال)، الأمر الذي تلقّفه السوريون أيضاً بنوع من الاحتفال بوصول ما يعبّر عن قضيتهم إلى منبر بهذه الأهمية.
في إمكان المخرج، أي مخرج، أن ينتقي من اليوتيوب ما يحلو له ويعيد إنتاجه في إطار سيناريو وحبكة ما تفضي إلى فيلم، المسألة إذاً هي في مسوّغات التوليفة الجديدة، وفي أي سياق وضعت. لكن ليس من الواضح أن «ماء الفضة» وُفّق في توليفة ومونتاج محكمين، وإن حالفه النجاح في أحيان قليلة.
وفي توليفة «ماء الفضة»، فيلم المخرج أسامة محمد ووئام بدرخان (2014 ــ 92 دقيقة) لا شيء استثنائي، إنه يأخذ فرادته، بالنسبة لما اعتدنا مشاهدته عبر اليوتيوب والقنوات الإخبارية، من مشاهد صورتْها ناشطة وشاعرة كردية حوصرت في مدينة حمص، وخرجت مع الذين خرجوا باتفاق رعته الأمم المتحدة، هي وئام سيماف بدرخان، وقد حمل الفيلم المعنى من اسمها الكردي سيماف، ومعناه بالعربية «ماء الفضة».
يحاول الفيلم أن يبني سردية بصرية تقليدية حين يبدأ من الولادة ليصل إلى الذروة، أو إلى ذروات عديدة، ليذكّر في نهاية الفيلم بالولادة مرة أخرى. فهو يبدأ من مشهد قطع حبل سُرّي لوليد جديد، ويعود إلى المشهد مرة أخرى في قلب الفيلم، ليركز على صورة معتقل متكور على نفسه كما لو كان جنيناً، وصولاً إلى مشاهد الفيلم الأخيرة عندما يسأل بدرخان وهي تحت الحصار أين تكون، فتجيب إنها متكورة في خزانة أطفال. ليختم الفيلم بأسئلة حول معاني كلمات في اللغة الكردية، من قبيل «علميني الإنسان، اللون، ..»، ومن الواضح بالطبع أنه يتخذ من اللغة هنا ذريعة للتساؤل حول الإنسان كمعنى ووجود وأشياء أخرى.

علاقات واهية

يُعَنْون الفيلم مشاهده بأسماء تحمل معاني ودلالات أدبية أو تشير إلى تواريخ وثورات، مثل «سبارتاكوس» حين يعرض فيديو أول انشقاق عن جيش النظام، و»دوما مونامور» ليذكّر بـ «هيروشيما حبيبتي» (أحد أهم الأفلام الفرنسية عن الحرب، سيناريو الروائية الفرنسية مرجريت دوراس، وإخراج آلان رينيه. بالإضافة إلى اقتباسات مسرحية عن السيناريو نفسه)، «الجندي المجهول» حين يعرض مقطع فيديو شهير لجنود يدخلون حي بابا عمرو الحمصي بعد تدميره، ويستعمل المخرج هنا موسيقى عسكرية للتهكم من نصر الجنود وهم يصورون أنفسهم عند الدخول إلى الحي مرددين «بابا عمرو سابقاً»، في إشارة إلى غياب ملامح الحي القديم كلياً، إلى مقطع حمل اسم «ذاكرة الجسد» عندما تتحدث سيماف عن عثورها تحت الحصار على رواية أحلام مستغانمي وكيف قرأتها بنهم.
التأريخ للثورة السورية هو أحد أبرز مشاغل الفيلم، ولذلك كان العنوان الفرعي للفيلم «صورة ذاتية عن سوريا»، فهو يحاول أن يقول كل ما حدث منذ كتب أطفال درعا على الحيطان شعاراتهم، لكن ضمن هذا التأريخ ينشغل المخرج بخطوط تهمّه وتشغل باله كسينمائي، فهناك المقارنة بين الصور التي يلتقطها الضحايا، وتلك التي يصوّرها الجنود. هنا بعض التركيز على السينما التي ولدت مع الثورة، كيف بدأت بكاميرا مهتزة وخائفة، وكيف تطورت لتصبح احترافية ومتعددة الأساليب، من «واقعية» في ساحة البيضا في بانياس، إلى «غرائبية» عندما يقطع الشبان الاوتستراد بأجسادهم، إلى «سينما القاتل» حين يطلق السجان النار على السجين، إلى «سينما القتيل» عندما تبكي الأم ابنها. إلى «سينما شاعرية» عند تصوير مشهد الجنازة، و»سينما خيال» عندما يرتفع علم الثورة من قبل غطاسين تحت الماء.
يسعى الفيلم إلى إقامة علاقات وطيدة بين مشاهده، لكن لا يحالفه التوفيق دائماً، هناك بعض العلاقات الملفقة والواهية، من بينها تلك المقارنة بين «مسيرة» السوريين المجازية في ظل النظام حيث مشوا 42 عاماَ، وبين الـ 42 كم التي مشاها أهل درعا من الريف إلى المدينة لفك الحصار عنها، تلك المسيرة التي تتوج بمجزرة رهيبة. المقارنة هنا ليست موفقة، واضح أنها مفتعلة وقسرية. المقارنة ليست مجرد تعليق عابر، بل يبنى عليها استدعاء مشاهد وصور بالأبيض والأسود تعود إلى زمن حكم حافظ الأسد.

«أنا» المخرج

قد تكون مشكلة الفيلم في نص الراوي المرافق، النص شديد التأدّب، الذاتيّ، وغير الضروري. هذا مدعاة للتساؤل عموماً حول ضرورة التعليق في الفيلم التسجيلي، إلى أي حدّ لا يمكن الاستغناء عنه، وترك الصورة هي التي تتحدث. التعليق في «ماء الفضة» قد يكون ضرورياً بحدود التعريف بحكاية الفيلم، أي كيف عثرت الناشطة الحمصية المحاصرة على المخرج أسامة محمد وبدأت ترسل إليه ما تلتقطه من صور.
على ذلك ينبغي أن يكون النص، وبالتالي الصوت، لوئام بدرخان، غير أن الحضور كلّه كان لأسامة محمد مع إضافات هنا وهناك لـ «أنا» كان عليها أن تتوارى قليلاً وتتواضع، لا من أجل شيء من النبل، بل هي شروط الصنعة، فالمخرج الماهر هو من يحسن التخفّي وراء صنعته.
يتساءل المرء حول ضرورة التعليق وإن كان جزءاً من نسيج الفيلم (على سبيل المثال انظروا التعليق الذي لا يمكن الاستغناء عنه في فيلم «عالم ليس لنا» للفلسطيني مهدي فليفل)، وهو إن لم يكن جزءاً من النسيج سيتحول على الفور إلى وصاية على مخيلة المتفرج ومشاعره.
سرعان ما نلاحظ أن التعليق على الهامش، وأنه يروي حكاية هزيلة حتى لو بلغة رفيعة المستوى. الحكاية هي أن المخرج غادر البلاد بعد أقل من شهرين من اندلاع الثورة، بالضبط في 9 أيار/ مايو 2011، (هنا يعلق المخرج «إنه يوم النصر على الفاشية»، ملاحظة يكررها مرة أخرى في الفيلم، فما العلاقة بين رحيل المخرج لبلاده في فترة الغليان ويوم النصر على الفاشية؟!)، باقي الحكاية أن المخرج في منفاه متردد بين أن يعود لبلده أو يشتري ميكروويف في صباح اليوم التالي.
النتيجة أن الصور تتدفق إليه في مكانه فيقرر «ذاهب إلى كان (مهرجان كان السينمائي) بلا فيلم، أنا الفيلم». هذه الأنا لن ينجو المتفرج منها، أنا أسامة محمد، أنا المخرج، أنا يوم النصر على الفاشية، أنا الذي أراد الشهيد فؤاد بللة أن يستضيفني في ناديه السينمائي في دوما، أنا قلت، أنا قال.. إلى آخره، إلى آخره.
في وقت يزعم الفيلم أنه صوت ملايين السوريين، وفي وقت يتوارى فيه صوت سيماف، الحكاية التي تستحق أن تقال: الناشطة التي بقيت هناك، قامت بتهريب كاميرا، اخترعت مدرسة، تعرضت لإصابة، ولتهديد المقاتلين المحاصرين من أبناء الثورة،.. وهي رغم ذلك لم تقل مرة أنا الفيلم، صوتها كان على الدوام ينادي «هافالو»، التي تعني صديقي بالكردية، والتي صارت في الفيلم الاسم الآخر للمخرج، إنها «أنا» المخرج مرة أخرى تسطو على نص وئام بدرخان.
في إمكان «ماء الفضة» أن يقدم نفسه كبروباغندا، كفيلم دعائي، حينها ستكون له الحظوة كأحد الأشرطة الكثيرة المؤثرة على اليوتيوب، أما أن يصل بقوة السياسة إلى «كان» وغيره، ثم يصدق أنه تحفة إبداعية ففي ذلك على الأقل ظلم لعشرات الأفلام السورية الأخرى. ها إننا نعود مجدداً إلى حكاية السينما في سوريا، الاستئثار بالتمويل، والإنتاج، والمهرجانات، وإلغاء الآخرين، هذه المرة باسم الثورة، بديكتاتورية أشدّ، وأنكأ.

راشد عيسى/ عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.