في الذكرى الحادية عشرة لرحيل إدوارد سعيد ناقش الغرب بموضوعية

28

28qpt968ترحَّل إدوارد سعيد (1935-2003) بين عدّة جغرافيات عربية وغربية، ولم ينجح مكانٌ منها في استقطابه، لأنه فضّل أن يكون خارج الأمكنة التي ظلّت تتبعه باحثةً فيه عن هُويّاتها، لا بل ظلت تبحث عن سببٍ مّا لكي تنتمي إليه؛ ذلك أن الانتماء إلى سعيد هو انتماء إلى الإنسان، أي إلى المعنى الكوني الذي ضيّعته رغائب الاستعمار، ذاك المعنى الذي تأتلف فيه كلّ الذوات على اختلاف ثقافاتها وقومياتها. والرأي أن ترحُّل سعيد بين الأمكنة والثقافات واللغات والمعارف ليس إلا قَلَقًا من ضيقها عليه، وسعيًا منه إلى تأكيد انتمائه إلى وطن مسلوب لم تبق منه إلا استعارات اللغة وبكائياتها. و»القدس العربي»، إذْ تُحيي ذكرى وفاة سعيد الحادية عشرة، تفتح صفحتها الثقافية لمجموعة من المبدعين والكتّاب العرب ليقدّموا آراءهم في المُنجَز الفكري لهذا المفكِّر الفذّ الذي قلّت حماسةُ جامعاتنا لتدريسه لطلبتها حتى أخاله يردّد في غيبته هناك قول العرجي: «أضاغوني وأيّ فتى أضاعوا…».

صورة المثقف العربي الممكنة

يمكننا أن نقارب فكر إدوار سعيد ومصنفاته من زاويتين اثنتين تتضافران معا لتقديم دوره على مستوى العطاء- الفكر، على المستوى الإنساني، من جهة، وما يمكن أن يستفيده المثقف العربي من خلال تجربته ومساهمته في ذاك الفكرـ من جهة ثانية.
أولا: من يطلع على مؤلفات إدوار سعيد وكتاباته لا يمكنه سوى أن يخرج بخلاصة هامة حول تميزه باحثا رصينا وكاتبا عميقا، أهله ذلك لاحتلال موقع هام في الفكر الحديث والمعاصر. يكمن هذا التميز في اطلاعه الواسع على الثقافة الحديثة، ومعرفته الدقيقة بتفاصيلها وخرائطها المتشعبة. وتكفي الإشارة هنا إلى كتابه حول الاستشراق الذي صار من الآثار الكلاسيكية في الثقافة المعاصرة لتبين ذلك. وفي مختلف مؤلفاته نلاحظ انخراطا دقيقا في أسئلة الفكر الأدبي الحديث كما تبلور في الغرب، منذ عصر الأنوار، وامتداداته في الثقافة الحديثة في العالم الأنجلو- ساكسوني. مما ينم عن فهم دقيق وسعة اطلاع. لقد بوأته هذه المعرفة الدقيقة من المشاركة في طرح القضايا الجوهرية المتعلقة بتشكل ذاك الفكر وصيرورته، ومكنته بالتالي من مناقشته من الداخل من منظور نقدي موضوعي، وإن كانت تبدو من خلالها تصوراته كعربي فلسطيني ملتزم بالقضية ومدافع عنها. لكن ذلك لا يعني أنه يساجل الفكر الأدبي والثقافي الحديث من منظور سياسي وايديولوجي ينطلق فيه من مسبقات فكرية جاهزة. ويبدو لنا ذلك بجلاء في كون ردود الفعل الأجنبية من أطروحاته تتوزع بين معارض ومؤيد، بغض الطرف عن أصوله التاريخية ومواقفه الصريحة. وستظل أفكاره تمثل اتجاها فكريا أصيلا ومختلفا، له خصوصيته. نعاين ذلك بجلاء في كون مختلف المصنفات حول النظريات الأدبية والثقافية المعاصرة، سواء كانت ذات طبيعة موسوعية أو بحثية، لا يمكنها أن تتناسى حضوره ومشاركته في تطور الفكر الحديث وإسهامه الإيجابي في تطويره.
ثانيا: لقد صار الحضور الذي أثبته سعيد على مستوى الفكر العالمي المعاصر مصدر استشهاد ومرجعا أساسيا للدراسات الأدبية والفكرية العربية، تنتقى من مصنفاته المترجمة إلى العربية الشواهد والمقتبسات التي تدبج بها المقالات والدراسات. لا أرى عيبا في ذلك، ما دام يدخل في نطاق التفاعل بين النصوص. لكن أن يتحول فكر سعيد إلى مادة للإفحام أو إبراز الاستفادة منه في المساجلات الفكرية المختلفة، فهذا يقلل من قيمة التفاعل الممكن مع الرجل ومنجزاته الرائدة. إن هناك مسلكين أساسيين يمكننا استنتاجهما من تلك العطاءات لاستمرار تفكيره لا استنساخه ومسخه. يكمن المسلك الأول في تبني الطريقة التي تفاعل من خلالها مع الفكر الغربي المعاصر، عبر الاطلاع العميق والواسع على منجزاته الإبداعية والفكرية. ونسجل هنا تقصيرا كبيرا في مواكبة فكر الآخر، على المستوى العربي، من أجل فهمه واستيعابه. أما المسلك الثاني فيتجلى، ليس في استنساخ الشواهد منه، ولكن اتباع الطريقة التي نهجها في توليد الأفكار ومناقشتها وتطويرها. أن يكون سعيد صورة للمثقف العربي الممكنة فذاك هو المدخل الطبيعي لإسهامنا في الفكر الحديث. أما استرجاعه مادة للاستهلاك فليس سوى محاكاة بئيسة ودليل على قلة الإبداع.

عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.