كلنا ماركوبولو /أمير تاج السر

171

28qpt992أثناء وجودي منذ أسبوعين في مدينة الظهران السعودية، ضيفا على احتفالية القراءة التي أقامتها شركة أرامكو النفطية كتقليد سنوي مبهج يلفت الأنظار كثيرا، طاردني ثلاثة أولاد متأنقين إلى حد ما، تبدو أعمارهم دون العاشرة. كانوا يلهثون وهم يخبون ورائي ويصيحون: يا عم، يا عم، إلى أن أدركوني. سألتهم عن سبب اهتمامهم الغريب بي، فأجاب أحدهم بكل بساطة: إنهم يحملون كاميرا رقمية جديدة من ماركة سامسونج، ويريدون التقاط الصور مع شخص مهم، ولأنهم لم يعثروا على مطرب أو لاعب كرة في ذلك المهرجان الخاص بالكتب، أرادوا أن يلتقطوا معي صورا بديلة، ولا يعرفون عني شيئا لكنهم شاهدوا صورتي في ملصق موضوع في المكان.
إجابة الصبي الصريحة هذه، تعكس وبإتقان شديد، ما يمكن أن يكون فرقا غير قابل للتقريب بين أن تكون مطربا أو لاعب كرة، وبين أن تكون كاتبا، ليس في هذا الزمن فقط، ولكن في أي زمن سابق كان أو لاحق، وفي أي مكان في الدنيا، حتى في تلك الدول التي نتحدث عنها دائما باحترام، بوصفها منابت للقراءة، والثقافة والتحضر. المطرب لا ينتظر ثلاثين أو أربعين عاما حتى يلمع، لكن إذا قضى تلك السنوات كمطرب، يكون قد حصل على أعلى تقدير يمكن أن يحصل عليه أحد، لاعب الكرة ومن أول قذيفتين ناجحتين في مرمى خصم عنيد، يحتل مكانا مرموقا في أذهان كل مشاهدي الكرة، ويصبح جزءا هاما من نسيج أحلام المراهقين، أن يصبحوا مثله، والمراهقات أن يتعثرن بفتى أحلام يماثله، وحتى الكبار الذين يتشوقون إلى التقاط الصور معه، أينما وجد. ولا بد من الاعتراف أن الكتابة لا تمنح شيئا على الإطلاق، لا ثراء ولا نجومية، ولكن تراكمات من العذابات المتصلة، تنتهي بصاحبها إما إلى الجنون أو الموت، من دون أن يكون حقق شيئا يذكر، وحتى أولئك العظماء الذين حققوا نجومية ما في الكتابة، لم يصبحوا من الشعبية بحيث يفلتوا من شباك الجهل بهم لدى بعض الناس.
حضرت مرة محاضرة للعظيم الطيب صالح، كانت كما أذكر عن أبي نواس الذي كان الطيب من المفتتنين بشعره، تحدث فيها ذلك اليوم بسخاء شديد، وبطريقته الممتعة في سرد الحكايات، وعرج على سير بعض مجايليه من الكتاب الأصيلين أمثال عبد الرجمن منيف، وإميل حبيبي، وحنا مينا. عنما افتتح باب النقاش مع الكاتب بعد نهاية المحاضرة، وقف أحد الحاضرين وكان شابا في منتصف الثلاثينات، كما يبدو، ووجه حديثه للطيب: ما هو وجه المقارنة بينك وبي الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي، وكلاكما يكتب بسلاسة فائقة؟!
تصدى الطيب للسؤال بحسن نية، وأجاب عليه بأن قال: نحن نختلف في أسلوب الكتابة وتناولنا للقضايا، وكلانا يكتب عن بيئة هو يعرفها جيدا، لكن إميل حبيبي، كان قد ذكر مرة، إنه تأثر نوعا ما بروايتي موسم الهجرة للشمال.
قال الشاب: أنا لم أقرأ لك ولا لإميل حبيبي. في الحقيقة أنا لم أسمع بك أو به إلا الآن في هذه الخيمة، التي دخلت إليها مصادفة.
مثل هذا الموقف الصادم، والبعيد تماما حتى عن الذوق العام، والموجه لكاتب كان فعلا لامعا مثل الطيب، يؤكد ما ذكرته من تمدد الفارق بين الإبداع المكتوب والإبداع الممارس غناء أو كرة قدم.
لن يجرؤ أحد على إسماع جملة كهذه لمغن مثل كاظم الساهر، حتى لو لم يسمع به فعلا، بل حتى لن يجرؤ على مجرد التفكير إنه لا يعرف مغنيا يعرفه الناس كلهم، ولاعب كرة في برشلونة وريال مدريد، يشتري المراهقون قمصانا عليها صورته ورقمه بمئات الدولارات. ولن يحدث أبدا أن يشتري أحد كتابا عليه توقيع ماركيز أو همينجواي مثلا، بمبلغ أعلى قليلا من سعر بيع الكتاب العادي.
لقد لاحظت في زيارة لبريطانيا بصحبة أسرتي، أن الأبناء كانوا حريصين على زيارة ملعب تشيلسي، ومانشستر، ومشاهدة مباراة في كرة القدم، وشراء قمصانا عليها صورا لإبراهيموفتش، وميسي طبعا وغيرهما من لاعبي الكرة، وكنا على مقربة من بيت شكسبير في استرادفورد، لكن لم تأت سيرته على لسان أحد، أن يضعه في برنامج زياراته، وشكسبير ليس مجرد كاتب، بل هو ثروة كبرى لبلاده.
لقد كان ماركيز لامعا بشدة، بل كان في نظري ونظر الذين ما زالوا يعشقون الكتب، ألمع من لاعب الكرة بيليه، وبرغم ذلك، وحين توفي، قال لي أحد معارفي، ممن يعرفون أنني كاتب ولا علاقة لهم بالكتابة: سمعت أن هناك كاتب من أمريكا اللاتنية، اسمه ماركوبولو مات اليوم، هل تعرفه؟!
بالطبع لم أكن أعرف الكاتب ماركوبولو، لكني أعرف العظيم جابرييل غارسيا ماركيز الذي كتب: مئة عام من العزلة، إحدى عجائب الدنيا، للذين يعرفون التفرقة بين العجائب وغير العجائب.
أخيرا أقول: لقد وقفت مبتسما، وتركت الأطفال الصغار، يتبادلون التقاط الصور معي، على أمل أن يأتي يوم، يصبح فيه الكاتب من الذين يدخلون المتاجر والمطاعم بحراسة، خوفا من أن يؤذيه المعجبون وهم يتسابقون لتحيته، وأن يموت باسمه المعروف، وليس باسم ماركوبولو الغامض.

عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.