«وصف الأكذوبة» و«يشتعل الخسران» لأنطونيو غامونيدا: المراهنة على التفاعل بين الشعري والوجودي
بعدما تولّى الشاعر المغربي المهدي أخريف ترجمة ديوان «كتاب البرد» للشاعر الإسباني أنطونيو غامونيدا إلى العربية ونشره بين دفتيْ كتاب عام 2005، تعززت المكتبة العربية حديثاً بترجمة مجموعتيْ «وصف الأكذوبة» و»يشتعل الخسران» للشاعر الإسباني نفسه، وهي الترجمة التي صدرت ضمن منشورات «بيت الشعر في المغرب» بتوقيع الشاعر والمترجم خالد الريسوني.
ولاشك في أن ترجمة أعمال غامونيدا (Antonio Gamoneda) إلى العربية، بعد أن عرف العديد منها طريقه إلى لغات أخرى وفي مقدمتها الفرنسية، تُعدّ حوارا خصيبا، يُسهم في العبور بالصوت المتفرد للشاعر الإسباني المذكور نحو أفق التأويل والضيافة الشعرية واللغوية، بما تقتضيه هذه الضيافة من تفاعل بناء؛ مثلما يسجّل ذلك الباحث المغربي خالد بلقاسم في تقديم الكتاب.
يعرّف بلقاسم «غامونيدا» بكونه واحدا من أهم الأصوات في الشعر الإسباني المعاصر بوجه خاص، والأوربي بوجه عام، وإن تأخر اكتشافه أوربياً إلى مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. ويشير إلى أن غامونيدا ينتمي من الناحية التاريخية إلى جيل أطفال الحرب الذي بدأ الكتابة في الخمسينيات من القرن الماضي، غير أن ذلك الشاعر احتفظ بما يفصله عن الجماعة المعروفة بالخمسينية، حتى وإن حصلت تقاطعات كتابية، على نحو عفوي بينه وبين بعض أعضائها؛ فقد ظل مؤمنا أن الشعر ممارسة فردية، تتطلب من صاحبها أن يسمع نبضه الذاتي الحامل لجيناته التي لا تقبل التناسخ، وأن يرعى هذا النبض على نحو فردي.
ويلاحظ خالد بلقاسم أن الرؤية الشعرية لغامونيدا تراهن في بناء المعنى على منطقة التفاعل بين الشعري والوجودي، على نحو جعل شعر الشاعر المذكور منطويا على امتدادات وجودية وميتافيزيقية، حتى وهو يتحدث عن أشياء من الطبيعة أو من الحياة الحديثة.
يتوقف صاحب التقديم عند ملمحين يميزان الكينونة الشعرية لدى غامونيدا، هما: الصمت كإبدال كتابي، والموت كمرآة للمعنى؛ فيوضح بخصوص الملمح الأول أن غامونيدا دخل في صمت شعري امتد قرابة عقد من الزمن، بعد ديوانه «بلوز قشتالي» (1961 – 1966) الذي لم ينشر بسبب الرقابة إلا عام 1982 وفرائد II «هوى النظرة» (1963 – 1970). وهو صمت كان له أثر فاصل في الإبدال الكتابي عند الشاعر المذكور، إذ انفتحت أمامه شعاب كتابية أخرى جديدة، معضدة بوعي حاد، استحقاقا لاستئناف السفر، أو استحقاقا للسمو الذي قرأه غامونيدا في اسم الوديعة التي ورثها عن والده والمتمثلة في ديوان «حياة أخرى أسمى».
أما بخصوص ملمح الموت، فيشير بلقاسم إلى أن الاتساع الدلالي الذي يقترن بالموت في أعمال غامونيدا يعدّ واحدا من المداخل الدلالية القرائية التي تسمح بمقاربة الوشائج التي تصل الموت عنده بالصمت والغياب والذاكرة والنسيان. ويستطرد قائلا: إن وجوه الموت تعددت في أعمال غامونيدا. طورا، يحضر الموت انطلاقا من دمار موجه بعماء السلطة، أو من كل الاختفاءات البانية للنسيان. وطورا، ينبثق من التلاشي الذي يسكن الأشياء وينخرها من الداخل. وطورا، يطل من غور الذاكرة في صورة صدى قادم من طفولة الشاعر وقساوتها، أو في صورة وجوه ملتبسة وصرخات غامضة آتية من البعيد… وأطوارا أخرى، يقدم غامونيدا الموت اعتمادا على نزول سحيق إلى أعماق جسده في توغل نحو غربة داخلية غائرة، أو اعتمادا على رصد الهرم يدب في الأعضاء داخل صفاء لا يستريح، على حد تعبير الجزء الأخير من كتاب «يشتعل الخسران».
ويبين بلقاسم أن غامونيدا أدخل في كتاب «وصف الأكذوبة» النفَس السردي، ولكن بإبعاده عن التسلسل، مع الحرص على توجيهه لتحقيق الانتقال من البناء بالبيت إلى بناء أشمل، فيه توسل الشاعر بكتل لغوية تتجاوب مع الرهان على الكتاب الشعري، وتتغذى من تفاعل بين غموض متولد من التركيب اللغوي ومن القضايا الوجودية التي توغلت فيها الذات الكاتبة، حتى وهي تلامس موضوعات ذات إحالات خارجية.
من أجواء الكتاب نجتزئ المقطع الشعري التالي:
«أنا أولد في جنس آخر والظاهر أزرق رصاصي. حيواناتي تجهل رقة سكاكينك وبَعْدُ في روحي لا تزال أرقام لست أعرفها.
في لعابي ثمة يُودٌ وتلوينٌ بالحنّاء، لكن لساني ينصّل
ظلالا ويُشعل أضواءَ لم تكن موجودةً.
ماذا تعرفين أنتِ عن الأكذوبة، ماذا تعرفين أنتِ عن الجواهر التي تُحتمَل؟
كيف ستقتحمون صبْري؟ لساني قديم في لحاءين.
أحبّ لكني لا أشتهي.
كيف ستقتحمون صبري؟ حتى أنت، إنْ لم تهرمي،
فكيف ستُسلمين لي شبابك؟»
تجدر الإشارة إلى أن أنطونيو غامونيدا المولود عام 1931، أصدر مجموعة من الدواوين الشعرية، من ضمنها: «بلوز قشتالي»، «كتاب البرد»، «أغنية خاطئة». وحصل على الجائزة الوطنية للشعر (1988)، والجائزة الأوربية للآداب (1993)، وجائزة سربانتيس للآداب (2006)، وجائزة الأركانة العالمية للشعر (2012).
عن القدس العربي
التعليقات مغلقة.