ليلة القبيحين/ماريو بينيديتي

70

p16_20140926_pic1

1
كلانا قبيح. لسنا قبيحين بالمعنى الخلقي العادي للقبح. فهي لديها وجنة غائرة. مذ كانت في الثامنة من عمرها، حين أجروا لها العملية الجراحية. أما ندبتي الواسعة المقرفة إلى جانب الفم فسببها حرق فظيع، حدث مع بداية مراهقتي.

لا يمكن القول كذلك إن لنا عيوناً ناعسة، مثل ذلك النوع من مصابيح الإغواء التي يتمكن القبيحون المريعون أن يقتربوا، من خلالها أحياناً، من الجمال. لا، ولا بأي حال. فعيناها مثلما هما عيناي إنما هي عيون ضغينة وغيظ، لا تعكس سوى القليل، أو لا شيء، من الاذعان الذي نواجه به سوء حظنا. ربما هذا هو ما جمع بيننا ووحَّدنا. ربما لا تكون كلمة «وحَّدنا» هي الدقيقة والمناسبة. فأنا أعني الضغينة المتمادية التي يشعر بها كلٌ منا بسبب وجهه.
التقينا عند مدخل دار السينما، وقفنا في الدور من أجل أن نشاهد، على الشاشة، جميلين لا على التعيين. وهناك نظر كلٌ منا إلى الآخر أول مرة دون تعاطف، ولكن بتضامن غامض. هناك بالذات سجلنا، منذ النظرة الأولى، وحدتنا المتبادلة. جميع من في الصف كانوا مثنى مثنى، وقد كانوا يشكلون ثنائيات حقيقية: زوجان، خطيبان، عشيقان، جدان، وما أدراني. كل واحد منهم يمسك بذراع أو بيد آخر. هي وأنا وحدنا كانت أيدينا طليقة ومتشنجة.
نظر كل منا إلى قباحة الآخر بإمعان، بوقاحة، وبلا فضول. مررت بنظري على وجنتها الغائرة بضمانة الطلاقة التي تمنحني إياها ندبة حرق خدي المتغضنة، لم تتورد خجلاً، راقني أنها متماسكة وصلبة، وأنها تردُّ على تفحصي لها بإلقاء نظرة مُدقِّقة إلى منطقة حرقي القديم الملساء اللامعة والخالية من شعر اللحية.
دخلنا أخيراً. جلسنا في صفين مختلفين من المقاعد، ولكنهما متجاوران. لم يكن بمقدورها رؤيتي، أما أنا فكنتُ قادراً، حتى في العتمة، على تمييز رقبتها ذات الشعر الأشقر، وأذنها اللطيفة حسنة التكوين. وقد كانت أذن جانبها السليم.
خلال ساعة وأربعين دقيقة أُعجبنا بجمال البطل الأشقر والبطلة اللينة الناعم. فأنا على الأقل كنت قادراً دوماً على الاعجاب بما هو جميل. أما عتبي ولومي فأحتفظ بهما لنفسي وللرب أحياناً. وكذلك لوجوه قبيحين آخرين، وجوه فزاعات أخرى. ربما عليّ الإحساس بالشفقة عليهم، ولكنني لا أستطيع. الحقيقة أنهم شيء أشبه بالمرايا. إنني أتساءل أحياناً عن المصير الذي كانت ستؤول إليه الأسطورة لو أن وجنة نرسيس كانت غائرة، أو أن الحمض أحرق خده، أو كان فاقداً نصف أنفه، أو كانت هنالك ندبة مخيطة على طول جبهته.
انتظرتها عند المخرج. سرتُ بضعة أمتار إلى جانبها، ثم كلَّمتها. حين توقفتْ ونظرتْ إليّ، ظننتُ أنها مترددة. دعوتها لتبادل الحديث في مقهى أو كافيتيريا، فوافقتْ فجأة.
كانت الكافيتيريا ممتلئة، ولكن منضدة شغرت في تلك اللحظة. ومع مرورنا متقدمين بين الناس، كنا نخلّف وراءنا إشارات وإيماءات ذهول واستغراب. كانت قرون استشعاري بارعة بصورة خاصة في التقاط حركات الفضول المرضية، تلك السادية اللاوعية لدى من يملكون وجهاً عادياً ومتناسقاً بصورة إعجازية. ولكنني في هذه المرة لم أكن بحاجة لحدسي المُدَرَّب، ذلك أن أذنيّ تمكنتا من ضبط تمتمات، سعال خافت، نحنحات زائفة. فوجود وجه فظيع ووحيد له أهميته بكل تأكيد؛ لكن وجود قباحتين اثنتين معاً يشكل بحد ذاته استعراضاً كبيراً، أقل قليلاً من عمل مدبَّر؛ شيء لا بد من رؤيته مع رفيق، مع واحد (أو واحدة) من ذوي المظهر اللائق الجديرين بأن يتقاسم المرء الحياة والدنيا معهم.
جلسنا، طلبنا مثلجات، ووجدتْ هي الشجاعة (وهذا أمر أعجبني فيها أيضاً) لتُخرج مرآتها الصغيرة من الحقيبة وترتب شعرها، شعرها البديع.
«ما الذي تفكرين فيه»، سألتُ.
فخبأت المرآة وابتسمت. بئر خدها تبدل شكلها. وقالت:
«أفكر في تعبير مبتذل. الطيور على أشكالها».
تحدثنا مطولاً. بعد ساعة ونصف كان لا بد من طلب فنجاني قهوة لتسويغ طول فترة مكوثنا. وفجأة انتبهتُ إلى أنني أنا، وهي أيضاً، كنا نتكلم بصراحة جارحة يمكن لها أن تهدد بتجاوز الصدق والتحول إلى ما يقارب معادلاً للنفاق. فقررتُ التوغل في العمق.
«أنت تشعرين بأنك مستبعدة من العالم، أليس كذلك؟»
«أجل»، قالت وهي لا تزال تنظر إليّ.
«أنت تقدرين الجميلين، العاديين. ترغبين في أن يكون لك وجه متناسق مثل تلك الفتاة التي إلى يمينك، على الرغم من أنك ذكية، بينما هي، بالنظر إلى ضحكتها، تبدو غبية بكل تأكيد».
«أجل».
لم تستطع لأول مرة مواصلة النظر إليّ.
«أنا أيضاً أرغب في لك. ولكن هنالك احتمال واحد فقط، أتدرين؟ أن نتوصل أنا وأنت إلى شيء محدد».
«شيء محدد مثل ماذا؟»
«كأن يحب كل منا الآخر، يا للعنة. أو نميل أحدنا إلى الآخر. سمه ما تشائين، ولكن هنالك احتمال».
قطبت جبينها. إنها لا تريد التعلل بآمال.
«عديني ألا تنظري إلي كمجنون»
«أعدك»
«الاحتمال هو في أن نندس في الليل. في الليل الحالك. في الظلمة القاتمة. أتفهمينني؟»
«لا».
«عليك أن تفهميني! الظلمة التامة. حيث لا ترينني، وحيث لا أراكِ. جسدك جميل جداً، ألا تعرفين ذلك؟»
احمرت خجلاً وتحولت البقعة الغائرة في خدها فجأة إلى اللون القرمزي.
«أعيشُ وحيداً، في شقة، وهي قريبة جداً».
رفعت رأسها ونظرت إليَّ الآن تسالني، متحرية عني، محاولة بصورة يائسة التوصل إلى تشخيص. ثم قالت:
«هلم بنا».

2
لم أطفئ الأنوار وحسب، بل أسدلت كذلك الستارة المزدوجة. كانت تتنفس إلى جانبي. ولم يكن تنفساً مهموماً. لم تشأ أن أساعدها في خلع ملابسها.
لم أكن أرى شيئاً، ولا أي شي على الإطلاق. ولكنني استطعت أن أنتبه مع لك إلى أنها صارت ثابتة بلا حراك، تنتظر. مددتُ يداً بحذر شديد، إلى أن وجدتُ صدرها. نقلت إليّ ملامسي نسخة مشجعة، قوية. هكذا رأيت بطنها وجنسها. يداها أيضاً رأتاني.
أدركت في هذه اللحظة بأنه عليّ أن أنتزع نفسي (وأنتزعها) من تلك الكذبة التي اختلقتها أنا نفسي. أو حاولتُ اختلاقها. كان ذلك كومضة برق. لسنا هكذا، لسنا هكذا.
كان عليّ أن ألجأ إلى كل احتياطيّ من الشجاعة، ولكنني فعلت ذلك. ارتفعتْ يدي ببطء إلى وجهها، وجدتْ ثلم الفظاعة فيه، بدأتْ بمداعبة بطيئة، مقنعة ومقتنعة. الحقيقة أن أصابعي (وكانت ترتعش قليلاً في البدء، ثم تقدمت بهدوء متزايد) ومرت لمرات عديدة فوق دموعها.
عندئذ، حين لم أكن أنتظر ذلك، وصلت يدها أيضاً إلى وجهي، فمرت وأعادت المرور على الندبة وعلى الجلد الأملس، تلك الجزيرة الخالية من شعر اللحية في ندبتي المشؤومة.
بكينا حتى الفجر. تعيسان، سعيدان.
بعد ذلك نهضتُ وأزحت الستارة المزدوجة جانباً.
* ماريو بينيديتي (1920 – 2009)،
شاعر وروائي من الأوروغواي

عن الأخبار

التعليقات مغلقة.