دمشق تمضي بحياتها.. وعينها على حرب “التحالف”
كانت السَّاعة تشير إلى الثانية عشرة ليلاً في حيّ باب توما الدمشقي الواقع في منطقة السور القديم. تعلُو أصوات الموسيقى من المقاهي والمطاعم وأماكن السَّهر الكثيرة. يُدوي صوت المدفعيّة الثقيلة في جوبر القريبة، حيث يتقدّم الجيش السوري بصعوبة، ولا يبلغ الحسم. قذيفة أخرى. يرتفع صوت المغني مجدداً، وهكذا حتى وقت متأخر من تلك الليلة.
في الصباح سيفيق أهل الشّام على أخبار سقوط صواريخ من نوع آخر في شمال البلاد وشرقها. “الحرب” على تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” – “داعش” بدأت للتوّ!
الشارع الضيّق لا يتّسع سوى لسيارة واحدة، ودراجة مركونة وامرأة أربعينيّة وقذيفة هاون! ماتت المرأة وجرح سائق السيارة وتحطمت الدراجة. جاء رجال الأمن ومن ثم عمال التنظيف، أزالوا آثار القذيفة، وعاد الشّارع إلى ما كان عليه قبل ساعة!
القذيفة التي سقطت قبل أسبوع قرب محل العصير الشهير في الصالحية لم يلتقطها أحد. قتلت وجرحت وأحدثت أضراراً طفيفة في المكان. بعد ساعة فقط عاد صاحب الابتسامة إلى مزاولة حرفة تقديم الكوكتيل بالطريقة المحببة. الصاروخ الذي سقط قبل أيام قرب أحد المقاهي في الشعلان لم يمنع “هواة النوع” من العودة إليه بعد ساعتين! الحديقة العامة التي خلت من المواطنين نهاراً، إثر سقوط قذيفة صاروخية على بعد أمتار منها، عادت وامتلأت بالعائلات مساءً!
بائع الخزف في الحميدية، وبائع التوابل في البزوريّة، الحلوَنجي في الميدان، بائع الفلافل في القيميرية، بائع الشّاورما في الشيخ سعد، الموظفون في دوائر الدولة، تلامذة المدارس، شرطة المرور، العاطلون عن العمل، كلّهم يعرفون أنهم ربما يكونون ضحية قذيفة موت عشوائية هنا أو هناك. ولكنّهم، مع ذلك، لا يكترثون!
عشيّة بدء حرب “التحالف” على “داعش” عادت موجة الشائعات إلى دمشق. ولكن الصورة الحقيقية تقول إن الجيش (وملحقاته العسكرية) لازال يمسك جيداً بمفاصل المدينة. التقليص النسبي للحواجز لم يحِدّ من أزمة السّير الخانقة. علَم الجمهورية السورية العملاق على التل يظلّل أبناء دمشق. لا أوهام لدى المدينة التي تعيش كل يوم بيومه وتحاول أن تكسر رتابتها. المقاهي الممتلئة بالناس تجارة رائجة حتّى في زمن الحرب. لم ترجع الحياة إلى طبيعتها كما كان، ولازال، يصوّرها الإعلام الرسمي السوري. ولن تسقط العاصمة بيد المعارضة المسلحة قريباً، كما لا يزال يصر بعض المعارضين على القول!
“ما تبقى من الدولة هو فكرة الدولة”، تقول الأستاذة الجامعية أشواق عباس، مؤكدة أن “الدولة لم تغب، رغم كل محاولات تصويرها أنها عاجزة وضعيفة. أُصيبت بالآثار السلبية للحرب، لكنها صمدت”.
الدولة برأي عباس ليست مجرد كيان مادي. وتعطي مثالاً على ذلك، الملف الإنساني، إذ تشير إلى أن الدولة السورية أكثر من قدّم مساعدات ومعونات للشعب، ولازالت حتى اللحظة تدفع رواتب الموظفين، حتى في المناطق الخارجة عن سيطرتها!
في ضيافة “تيار بناء الدولة”
انحسرت مساحة العمل السياسي، (قياساً بالأشهر الأولى للأزمة)، بشكل كبير في دمشق، حتى تكاد تصبح معدومة. مَن يهتم لذلك أصلاً في ظل أولوية الاستقرار الأمني؟
يؤكد كل من حسن وطارق ورواد، وهم ناشطون في “تيار بناء الدولة السورية” المعارض، أنهم يعملون “على قدر المساحة الباقية، بما يتناسب مع أولويات الناس في هذه المرحلة. مع ذلك فنحن جذريون في موضوع التغيير، ولا نهادن في الأمر”.
ولكن كيف ينظر الشبان الثلاثة إلى “الحرب الدولية” على “داعش” التي أعادت خلط الأوراق في الميدان والسياسة؟ “من حيث المبدأ يمكن للحكومات أن تنسق مع دول أخرى في مكافحة الإرهاب، ولكن شرط أن تمثل الحكومة كل السوريين”، يقول حسن، الذي يتخوّف من “أن تعزز الضربات وجود داعش بدل أن تنهيه”!
ويعقب طارق مبدياً قلقه من أن تؤدي الضربات العسكرية، في حال طال أمدها، إلى إضفاء نوع من التعاطف مع “داعش” و”جبهة النصرة” في بيئات معينة، باعتبار أن مَن يستهدفه هو “الأميركي”! ويضيف “يجب أن تبقى العين مفتوحة على الخطر المتأتي من خيارات أخرى، بالتوازي مع الضربات الجوية، عبر فتح جبهات جديدة لتدريب وتسليح فصائل معارضة أخرى”.
أما رواد فيقول إن “الأساس في محاربة الإرهاب يجب أن يكون الجيش السوري وحده، وفي ظل حكومة وطنية”، لافتاً، في السياق، إلى أن “أي تحالف دولي إقليمي لن ينجح في القضاء على الإرهاب من دون التعاون مع الشعب السوري”.
جلسة شاي برفقة “الحرس” في شبعا
الغبار الأبيض الذي تحدثه السيّارة الرباعية الدفع المتجهة بسرعة نحو شبعا في الغوطة الشرقية لا تحجب صورة الدمار والخراب الذي لحق بأجزاء واسعة من البيوت والممتلكات على طول الطريق! فوضى “التعفيش” والتخريب التي طالت المنطقة لم تبقِ شيئاً على حاله.
يقولون إنه منطق الحرب، حيث يصير كل شيء مباحاً أمام الباحثين عن الثروة. يستوي في ذلك مسلّحو الفصائل المعارضة ومقاتلو بعض القوى العسكرية المساندة للجيش (كالدفاع الوطني مثلاً)! في شبعا وبلدات أخرى لم يرجع القسم الأكبر من الأهالي إلى بيوتهم، رغم مرور أكثر من سنة على استعادتها من “المعارضة”، إذ أنها لم تُعلن بعد منطقة آمنة. “إخفض رأسك قليلاً لتفادي رصاص القنص”. يقول أحد مقاتلي “الحرس القومي العربي” في أحد المواقع المتقدمة، على مسافة 300 متر من تمركز مسلحي “الجبهة الإسلامية” في دير العصافير وأطراف زبدين.
في جلسة شاي عند الظهيرة، يجزم “خطّاب” (قيادي ميداني) أن وجود “الحرس” في ميدان القتال “لم يكن يوماً دفاعاً عن بشار الأسد، أو عن النظام، إنما عن آخر معاقل المقاومة”. يتحدّث “خطّاب” عن انضباطية مقاتليه، وعن دورهم في تحرير بعض النقاط الاستراتيجية، إلى جانب الجيش و”الحزب”، ويلفت إلى أن الحرس القومي قدم 20 شهيداً إلى الآن “كلهم سقطوا خلال مواجهات مباشرة”.
في نيسان العام 2012 انطلقت تجربة “الحرس القومي العربي” بمبادرة من “الشباب القومي العربي” – “ضاد”، كأحد التشكيلات العسكرية الرديفة للجيش السوري. يؤكد هؤلاء أنهم ليسوا مرتزقة. “نحن لسنا حالة طارئة على النسيج السوري، بل نحن جزء منه”. ويشكل السوريون النسبة الأعلى من مقاتلي الحرس ( 80 في المئة) يليهم الفلسطينيون واللبنانيون وجنسيات عربية أخرى من خلفيات قومية عربية.
ويقول قيادي بارز في “الحرس”، لـ”السفير”، “نظر إلينا البعض في البداية على أننا مجرد كومبارس، واليوم تجاوز عديد مقاتلينا المئات، وصرنا رقماً في معادلة الميدان”. القيادي نفسه، وإذ يكشف عن نية لتأسيس حزب سياسي مرخّص على الأرض السورية، يؤكد أن “تنظيمه” لم يتلقّ أي دعم مالي أو تدريبي، سواء من إيران أو “حزب الله”. “مصادر الدعم هي من الجيش السوري والحكومة السورية، وما تبقى هو على نفقة شخصيات مقرّبة من التيار القومي”.
تخترق طائرة “الميغ” التابعة لسلاح الجو السوري سماء العاصمة الملبدة بالغيوم. تسقط إسرائيل طائرة حربية سورية قرب القنيطرة. في اليوم ذاته تشن طائرات “التحالف الدولي” غارات متتالية على مواقع لـ”داعش” و”النصرة” وفصائل أخرى في مناطق بعيدة عن دمشق (حتى الآن). تحضُر أخبار تطورات عرسال على المقلب الآخر من الحدود السورية – اللبنانية، وكذلك ما يعتبره البعض “عنصرية لبنانية” تجاه النازحين السوريين.
وحيداً كان الشاب العشريني يفكر بالسفر بحراً بعد انتهاء فترة تأجيله للخدمة العسكرية. إلى أين من هنا؟ لا أحد يمتلك إجابة واضحة، لا في سوريا، ولا خارجها.
عن السفير اللبنانية
التعليقات مغلقة.