جدلية المرأة والمجتمع
من المعروف أن قضية المرأة برزت كأول قضية ضمن القضايا الاجتماعية المتعاقبة والمتراكمة تاريخياً, و ذلك مع بداية انهيار مرحلة المجتمع الطبيعي “النيولوتي” أمام السلطة الذكورية, المشيدة للنظم الهرمية والطبقية الجنسوية, لتشكل فيما بعد, كتلة من التعقيدات والتناقضات الاجتماعية على مر العصور، كقضايا التميز الطبقي والعرقي والديني والخ … وبالتالي فالأبحاث الاجتماعية، التي ستتمحور معانيها حول هذه الحقيقة، ستخطو أولى خطواتها نحو الصواب والحقيقة الاجتماعية، التي عجز الكثيرون من الباحثين والفلاسفة بكافة توجهاتهم الفكرية عن فك رموزها، قد يعود ذلك لعدم استيعابهم أو تجاهلهم لمدى العلاقة الرابطة بين الإنسان ومحيطه الكوني.
فالإنسان الواعي لذاته ومحيطه، عليه أن يدرك أنه لا وجود لكون مذكر أو مؤنث، وهذا يشمل الطبيعة والمجتمع والإنسان أيضاً.
أي ليس هناك أصل ومأصول, أو “الآخر” نسبة للأصل، هذا من مبدأ التكوين والنشوء.
وفي هذا السياق تقول الفيلسوفة الفرنسية “سيمون دبوفوار” (الإنسان لا يولد امرأة انما يتحول إلى امرأة بفعل الحضارة ووطئة المجتمع).
وفي كتابها الشهير “الجنس الاخر” تقول أيضاً، (إن الرجال جعلوا من المرأة الآخر في المجتمع، حين وضعوا هالة من الأكاذيب حولها) .
تلك الأكاذيب التي تعود جذورها لآلاف السنين، على شكل أساطير وحكايات, روجت لها حتى يومنا هذا.
كالمأثورة الأسطورية التي تدعي بأنها خلقت من الضلع الأعوج لآدم , تلك أحدى النماذج المخيبة بحق المرأة, والتي تحمل بين طياتها الكثير من المعاني والمفاهيم المسيئة لحقيقة المرأة،
فالمقصود بالضلع الأعوج حسب الرؤية الدينية, هو عظم “الترقوى” الموجود في أعلى القفص الصدري للإنسان، ومن المعروف طبياً أن هذا العظم ليس منه فائدة بنيوية تذك, سوى إضفائه لبعض الجمالية للإنسان .
ناهيك عن وصفهم لها بناقصة العقل والدين, وحثهم للرجال على ضرورة تحمل أعباء تلك الناقصة، واعتبار ذلك من متممات الدين والإيمان.
ليس من المصادفة أن نجد تقارباً بنسبة كبيرة بين البعض من المفكرين والفلاسفة، والمعتقدات الدينية, كونها نابعة ومتأثرة بذات الذهنية الذكورية المشيدة منذ أكثر من خمسة الاف عام.
فمثال ليليث إسطورة المرأة المتمردة على آدم، التي ذكرت في الكتب اليهودية والرقم السومرية والبابلية, وحتى المسيحية والإسلامية، على شكل أحاديث وأساطير بصيغ وأشكال متعددة ومختلفة، تارة بالحية التي أغوت آدم وحواء، بأكلهم من الشجرة المحرمة، وتارة بالتنينة المختبئة في جذع شجرة الصفصاف، في ملحمة كلكامش، وتارة أخرى بالساحرة المتهمة بالهرطقة من قبل “محاكم التفتيش” الكاثوليكية.
إلا أنه في حقيقة الأمر لم تكن تلك المرأة سوى نموذجا حقيقياً للمرأة الجميلة والذكية، المتمردة على الذهنية والسلطة الذكورية في شخص آدم.
من الملاحظ أنه هناك أيضاً ثمة حقيقة خافية وراء مواقف الكثيرين من الفلاسفة والمفكرين, الذين اتهموا بمواقفهم “الميسوجينية” الكاره للنساء.
فإما أنهم كانوا يدركون لحد ما حقيقة المرأة ومدى ارتباطها بالحياة والمجتمع, وسبب عدم إظهارهم لتلك الحقيقة كان يتعلق بالمرحلة والبيئة الإجتماعية التي كانت تحيط بهم, أو أنهم تأثروا بعلاقاتهم العاطفية والزوجية الفاشلة التي واجهتهم في حياتهم.
فحينما يلقي سقراط النصح لطلابه بقوله (تزوجوا فإما أن تكونوا سعداء, او تصبحوا فلاسفة) تكون تلك اشارة واضحة منه بفضل زوجته على ما توصل إليه من حكمة ومعرفة، ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن يعاني من سلوك زوجته النابع من عدم اكتراثها بما يفعله زوجها والتي كانت سبباً في الكثير من المشادات الكلامية بينهما، والتي وصلت لدرجة وصفه للمرأة بأنها مصدر الشر.
هذا يعني بأنه كان يريد لها أن تكون بقدر معرفته وحكمته أو ربما أكثر.
هذا ما نجده في جوابه لزوجته , حين سألته وهو غارق في التفكير بين تلامذته, ماذا كنت تفعل أثناء قيامي بالواجبات المنزلية؟ ب” كنت أفكر” ! و كأنه يقول لزوجته أنا أفكر “لأعرف نفسي” وأعرفك, وعليك أنت أيضاً أن تفكري لتعرفي نفسك.
وهكذا فأن تلميذه أفلاطون أيضا لم يحدد موقفه بشكل واضح تجاه المرأة, رغم إقراره بضرورة مشاركة المرأة خلال طرحه لفكرة المدينة الفاضلة, إلا أنه لم يكن يميل إلى فكرة مشاركتها بطبيعتها وخصوصيتها الفيزيولوجية, إنما كان يعتبر الطبيعة الذكورية مقياساً لعمل المرأة, كقيامها بالأعمال الشاقة، ونزولها إلى حلبات المصارعة، والحروب، والخ..
وهو الخطأ نفسه الذي واجه الاشتراكية المشيدة، ولكن بشكل أخر فبدل الاعمال الشاقة وحلبات المصارعة، كانت المصانع ومناجم الفحم الحجري ، تواجه بنية المرأة الرقيقة.
هذا ما يتعارض مع رؤية أوجلان، إذ يقول:(محال علينا صياغة تعريف صحيح للمرأة والحياة انطلاقا من الرجل، ذلك أن الوجود الطبيعي للمرأة يتحلى بمنزلة محورية أكثر. الأمر كذلك بيولوجيا أيضا).
ليس من المستبعد بأن يكون “نيتشه” متأثراً بالرؤية الأفلاطونية، فرغم إظهاره العدائية للمرأة, إلا أن مواقفه كانت من أحدى أسباب ظهور النظرية أو الحركة النسوية “الفامينية”، وهذا يتجلى في تحديه للنظام الهرمي بين العقل والجسم.
رغم تخصص فرويد في تحليل نفسية المرأة لأكثر من ثلاثين عاماً، إلا أنه لم يجد جواباً للسؤال الكبير الذي حيره طيلة تلك السنين وهو “ماذا يردن بالضبط” أي المرأة .
من الممكن أن يكون الجواب بسيطاً و سلساً عندما ينطقها أوجلان, ولكن كانت معانيها غير منسجمة بالبيئة الاجتماعية والثقافية التي أحاطت بذلك الطبيب النفساني آنذاك, إلا أنه كان مناسباً للبيئة والثقافة التي خرج منها أوجلان، حين وصفها بالحياة (jiyan) حيث يكون ذلك جواباً شافيا للطبيب الحائر فرويد، بأنها تريد الحياة التي سلبت منها بفعل الإقتدار الذكوري, وايضاً رداً قوياً لفيلسوف التشاؤم “شوبنهاور” الذي قال (لو كانت المرأة حياة لهربتُ منها).
لاشك أن مصطلح الحياة “jiyan” الذي يربطهُ أوجلان بالمرأة نابع من عمق ثقافة المجتمع الطبيعي “النيولوتي”، الذي كانت للمرأة الدور الأسمى في إدارة تلك المرحلة.
وما من شك ،بأن الكرد كان لهم النصيب الزمني الأكبر في ممارسة تلك الثقافة الأمومية، ومن أحد المؤشرات التي تدل على ذلك، إستمراريتهم في تسمية عوائلهم بأسامٍ مؤنثة حتى يومنا هذا.
لذلك فمن البديهي إن يكون اللفظ والمعنى سلسين و منسجمينً باللغة والثقافة الكردية، ولكن استخدم هذا المصطلح أي “jiyan “بنسب متفاوتة، قياسا بمدى تأثر الكرد بثقافة المجتمع الجنسوي ،الذي روج لمصطلح آخر يشد به الخناق في عنق المرأة ،وهو مصطلح “Pîrek” أي المرأة العاجزة والخنوعة والمستسلمة، والتي لازالت تبحث عن وجودها وسط كومة من التناقضات والتعقيدات الاجتماعية, والخالية من الجماليات والاخلاقيات التي يشيرُ اليها أوجلان في بحوثاته المركزة حول المرأة والحياة jiyan ،يتجلى ذلك في تقييماته التي تخص “الجينولوجيا” علم المرأة، و عن دور هذا العلم في بناء المجتمع الأخلاقي السياسي والديمقراطي، واعتبارها قوة فكرية وتطبيقه على السواء.
حيث يقول في نهاية حديثه (بطبيعة الحال, أنا لا أتحدث عن المرأة الدمية بيد الرجل وظله, بل موضوع حديثي هنا، هو المرأة الحرة المتبنية للمساوات والديمقراطية).
هذا أيضا يعكس رؤية أوجلان الناقدة للفامينية التي تختزل نضال المرأة ضمن أطار جنسوي بحت، بعيداً عن المعاني السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
حيث يقول بهذا الصدد من الممكن أن يؤدي مصطلح الفامينية الحركة النسوية, الى مزيد من العقم نظراً لبعده عن توصيف قضية المرأة بدقة, ولتهيئته الأرضية لظهور تصور ” النزعة الرجولية ” كطرف مضاد).
هذا يعني أنه ليس من المستبعد أن تتحول الرؤية الفامينية إلى رؤية انتقامية، خارج إطار المساواة، لتزيد من التعقيدات الاجتماعية أكثر مما هو عليه.
أما المرأة الدمية والظل, التي يشير اليها, فتلك ظاهرة أخطر بكثير من ظاهرة المرأة المنتقمة, فهي أما أن تكون خنوعة ومنكسرة الإرادة, وأما أن تدعي بامتلاكها القوة والإرادة والمعرفة, وسط ثورة اجتماعية عارمة, متخفية بعباءة التحديث الديمقراطي, بينما نجدها في واقع الأمر أضعف من تلك التي كانت تعرض وتباع في أسواق النخاسة.
فهي تستمد قوتها من ثورة التحديث الديمقراطي وتضعها في خدمة أسيادها بمحض إرادتها .
نقيض الحالة الأخرى المسلوبة الإرادة بحكم الواقع العبودي الذي كانت تعيشه آنذاك.
من المخيب أن نجد ظاهرة نسائية كتلك التي تدعي التحرر، وتحمل في داخلها أبشع أنواع العبودية والتواطؤ .
فالحرية الحقيقية هي معرفة الذات، أما العبودية، فهي ازدراء الذات وإنكارها, والمرأة القوية و الجميلة هي تلك التي تبحث عن ذاتها الأخلاقي والديمقراطي، وتتخذها سبيلاً لإعادة احياء الحياة .
وليد جولي
التعليقات مغلقة.