الوظيفة الثقافية

28

23qpt990كان مفهوم المثقف العضوي من المفاهيم الرائجة والمتداولة في السبعينيات من القرن العشرين. ارتبط هذا المفهوم بالأدبيات اليسارية عند غرامشي للدلالة على المثقف المتصل بالفكر الثوري وممارسته واقعيا. جاء هذا المفهوم ليتخذ معنى جديدا لما كان سائدا خلال الفترة الوجودية، في الخمسينيات، مع مفهوم الالتزام.
غاب هذا المفهوم من الاستعمال بسبب تراجع الفكر اليساري واندثار مفاهيمه. لكن دلالاته ما تزال قائمة، وقابلة لأن تأخذ أبعادا جديدة. إن استرجاع مثل هذه المفاهيم بمعان جديدة يسهم في إعطاء الفكر دلالات جديدة للتحليل تتماشى مع واقع التحولات الطارئة، وتسهم بذلك في إغناء الرصيد التحليلي بمفاهيم ذات أبعاد إجرائية في تجسيد الواقع وتفسيره، ومنحه قوة تداولية جديدة للوصف والتحليل.
لا يمكن لمفهوم المثقف العضوي أن يسند فقط إلى ما كان يعتبر لصيقا بـ»الإيدولوجية العلمية». بل يمكن وصله بأية إيديولوجيا حتى وإن كانت «غير علمية»، أي، وهي تتخذ سمات طائفية أو دينية أو إثنية،،، إن مبرر هذا التوسيع يكمن في كون عضوية المثقف تتحدد وفق التي يضطلع بها بغض النظر عن الانتماء الذي ينطلق منه (بلزاك مثلا).
لكن أي وظيفة ثقافية لا يمكن الحديث عنها بدون الطبيعة الثقافية التي يتمثلها المثقف ويمارسها عن اقتناع، مدافعا بذلك عن قيم وأخلاقيات محددة. وبحسب نوعية تلك الطبيعة نقيس درجة العضوية وخصوصية التي يضطلع بها، بغض النظر عن الشعارات التي يُحمِّلها إياها. فنميز، بناء على ذلك، بين عضوية ملائمة، وأخرى غير ملائمة. إن معيار التمييز لا يرتهن إلى نوع المقول، ولكن إلى وظيفته في المجتمع، وإلى الدور الذي يقوم به من أجل تطوره وازدهاره.
بهذا التوسيع لمفهوم المثقف العضوي نكون نستبعد الوظيفة الإيديولوجية المحددة التي كان ينبني عليها. فيتساوى المعنى ليشمل أي مثقف يضطلع بوظيفة ثقافية داخل المجتمع، سواء كانت ذات أبعاد تربوية أو علمية أو سياسية،،، وأيا كانت الإيديولوجيا التي يمثلها حسب التصنيفات الجارية بدون إلغاء أو تمييز.
تدفعنا هذه التحديدات إلى تعيين في الألفية الثالثة بصورة جديدة تتبأر على الدور الذي يضطلع به المثقف في تشييد الإنسان الجديد الحامل للقيم الثقافية الجديدة ما دامت تصب في المجرى العام للملاءمة المشار إليها. وبذلك نبتعد عن الفصل بين المثقفين (عضوي ـ غير عضوي) حسب انتماءاتهم الإيديولوجية التي كانت تقيم حواجز تحول دون التواصل والتفاعل، وتقضي بـ»التخندق» في مجالات ضيقة تهم طبقة أو طائفة أو إثنية في مقابل كل ما يناقضها.
إن المعلم والأستاذ والصحافي والكاتب الذي يقوم بوظيفته التربوية والتعليمية والإعلامية والإبداعية، وفق أخلاقيات المهنة، وبالتزام مبدئي تجاه التلميذ والطالب والقارئ والمشاهد، ساعيا إلى الارتقاء به إلى المستوى المطلوب الذي يؤهله للحياة، باعتباره إنسانا، هو «مثقف عضوي» لأنه يضطلع بوظيفته في أبعادها الإنسانية، المبنية على القيم والمبادئ المشتركة والمتعالية على الزمان، والتي لا نقيدها بعصر الأنوار. ولا عبرة هنا بالتصنيفات حول الأصالة أوالحداثة أو طبيعة الثقافة في صلتها بالمادية والعقلانية أو المثالية أو التدين أو ما شاكل ذلك.
ويمكن، بالمقابل، اعتبار المعلم والصحافي،،، الذي يغش في عمله، ولا يحترم الذي يتعامل معه، وفق هذه الأخلاقيات، مثقفا غير عضوي، وإن كان يدعي حمل شعارات تتصل بالعقلانية أو العلمانية أو الإسلامية أو الطائفية أو غيرها. إن طبيعة العمل الذي يضطلع به، ومدى خدمته للإنسان هو الذي يحدد وظيفته الملائمة من عدمها. وما قلناه عن المعلم والكاتب ينسحب على الفاعل السياسي والناشط الجمعوي والمنظر الاقتصادي. فكلما كان الفعل الثقافي يصب في مجرى الارتقاء بالإنسان لتحقيق إنسانيته كان جديرا بصفة المثقف العضوي بغض النظر عن انتمائه إلى اليمين أو اليسار؟ فالوظيفة المضطلع بها في بعدها الوطني والإنساني بعيدا عن الموقع الاجتماعي أو الموقف الإيديولوجي هو الذي يعطيها طبيعتها الملائمة أو غيرها.
العضوية الحقيقية للمثقف تتمثل في وظيفته النقدية والإبداعية، وليس في وظيفته الإيديولوجية. إن الوظيفة الإيديولوجية، مهما ألصقنا بها من صفات تمنحها أحقية ما تظل نسبية ومتحولة وعابرة. أما الفعل النقدي والإبداعي للمثقف فلأنه يتأسس على طرائق تتلاءم مع الفكر والإبداع الإنسانيين فإنهما أبدا في خدمة الإنسان.
يمكن للمثقف أن تكون له قناعاته السياسية والإيديولوجية، سواء كانت يمينية أو يسارية، علمانية أو دينية، قومية أو طائفية،،، لكن على ممارسته لدوره الثقافي أن تتعالى عن تصريف تلك القناعات الخاصة لأنها لا يمكن إلا أن تتعارض مع غيرها؛ ولأنها تضيق مجال إبداعه أو فكره بجعلهما في خدمة الطائفة أو الإثنية. بذلك يمكن للمثقفين أن يضطلعوا بوظيفة أخرى تهم صيرورة المجتمع والوطن والأمة والإنسان. وفق هذه الوظيفة الجديدة للمثقف العضوي يمكن أن يلتقي المثقفون على اختلاف أطيافهم وتباين تصوراتهم ليكونوا ممثلي الضمير الحر والحي للإنسان. أما المثقف العضوي الذي يغلب التزاماته الخاصة على ما عداها، فيقوم بوظيفة عكسية لأنها تنهض على قيم الكراهية ومبادئ إلغاء الآخر.

سعيد يقطين

عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.