من هم الأخيار والأشرار حقاً في حروب الإستبداد؟

36
21qpt699
مطاع صفدي

إقحام العالم العربي بأكثريته في بحران من دماء شعوبه، في حروب مجازر ومذابح جماعية، هل أصبح هذا هو البديل الشيطاني عن عهد من ثورات للربيع وأزهاره. هل سوف تُجر الجماهير كالقطعان إلى المسالخ الجماعية، تارة بإرادتها الصماء، وتارة أخرى تحت عصا رعاتها وحكامها.. هل ينبغي لأربعين دولة أن تعلن ما يشبه يوم القيامة ضد عشرين أو ثلاثين ألفاً من أنصار التدين الجنوني، المغتصبين والمحورّين لمعانيه الأصلية. ورغم الفوارق النوعية الهائلة في قوى أفرقاء هذا النزاع الدولي، الأمريكي العربي الدولي من جهة والإرهابي الداعشي من جهة أخرى، فإن نتائج الحرب ليست مضمونة؛ حتى لو تم سحق التنظيم عسكرياً، فلسوف تتبقى له أدوار كثيرة سياسية وعقائدية في ساحات المشرق، وغاباته البشرية المعقدة.
هذا التوقع السلبي هو الأقرب إلى تصديق العارفين بخرائط الصراعات في هذا الإقليم المضطرب. فأية منازلة عسكرية خالصة مع ظاهرة الإرهاب منذ نشأتها المعاصرة لم تكن لتأتي بالحلول الحاسمة بقدر ما تضاعف من تحدياتها القديمة، مع ابتكار وسائل جديدة لممارسة جولاتها الأولى. وخبراء المؤسسة الأمريكية هم على علم تام بمثل هذا القانون، لكنهم لا يكفون عن شن الحروب كبدائل استعراضية عن المعالجات الجذرية لأصول التحديات. كأنما تغدو الحروب أهدافاً في ذاتها، وليست أدوات اضطرارية لتحقيق مصالح مدنية واجتماعية لأصحاب انتصاراتها..
هذا لا يعني أبداً أن همجية داعش لا تستحق مقاومة عنيفة بالغة ضد شرورها وأخطارها المهددة لسلام الجميع. لكن هذا العنف، وإن صار عسكرياً خالصاً، قد لا يكون كافياً وحده لقطع دابر هذه الجريمة العظمى المتمادية. فإن لم تُقابل بالعنف الأقوى من فظائعها مجتمعة، فقد يصبح ضحاياها أشبه بشركاء موضوعيين لها، ما داموا يسكتون عن شرورها ولا يجابهونها، يدارونها، يناورون دهاءَها بدهاء أعظم، أو ينتهي الأمر بهم إلى صيغ من التحالفات الغامضة الخبيثة مع أشباح منها. وربما لم تكن الدبلوماسيات الأمريكية بعيدة عن ممارسة هذه الأساليب، كأنها مناهج مالكة لمسوغاتها في ذاتها، ما أن تحقق بعض نجاحات نسبية في محصلة حراكها. لكن الواضح حتى الآن في المسألة الداعشية أن منهج المناورة السلمي استنفد آفاقه العملية، وأن الداعشية مثلما خرجت عن رقابة صانعيها الإقليميين الأوائل. كذلك فإنها أمست مستعصية على أساليب الإستيعاب الأمريكي الراهنة، وحلفائه من بعض العرب. فبعد أن كانت لها مهمة جيوسياسية في وقف الجموح الإيراني نحو كامل المساحة المشرقية تحقيقاً لمبدأ وحدة تراب الوطن الإمبراطوري للمشروع الكسروي، وهي تلك المهمة الغائية الكبرى التي سوّغَ صانعو الداعشية عقيدةَ التشدّد القصوى ضدها، لمقاومة زحفها المذهبي في كل اتجاه، فقد انقلبت الداعشية على وظيفة أن تكون الوسيلةَ لغيرها، لتغدو هي وسيلةُ مشروعها الخاص، أي فرض الحكم الشمولي على مختلف «ديار الإسلام»؛ فالإمبراطورية الكسروية كادت أن تجدد نقيضَها (التاريخي) بمعنى ما، أي ذلك المشروع الآخر الذي كان يراد له أن يُفهم على أنه هو التجسيد الحق لمبدئية العدالة على الأرض تعبيراً عن وحدة الإرادة الإلهية، وذلك مقابل الإستبدادية المطلقة لسلطة الكسروية الماضوية، وامتداداتها العصرية تحت أثواب التحريفات المذهبية. لكن في هذه اللحظة التاريخية حقاً تم اختطاف ذلك المشروع بتشويه منطلقات الثورات الربيعية وإجهاض ممارساتها العملية. فكان على الداعشية أن تكون هي الأسرع في عملية الإختطاف، وتبديد الربيع المشرقي فكراً وسلوكاً ميدانياً.
تدعي العقيدة الداعشية أنه على جماهير الديار الإسلامية أن تتفهمها كما لو أنها هي خط الدفاع الأخير ليس عن الإسلام عامة، بل عن بقاء نقائه كما شاء له دعاته الأولون الأفضلون أن ينتشر ويملأ الأرض سلاماً وعدلاً. لكن هذه الرسالية إنما ترفع العقيدة إلى أعلى عليين، كيما ينسى بؤساء الناس على الأرض همومهم النسبية وهم منخرطون في تفاصيل مشاقّهم طيلةَ حياتهم اليومية. ها هنا على الأرض، وفي القعر من كل شيء إنما تترسّب أصولُ الكوارث التاريخية والكبرى منها خاصة. فلقد أُخذت حضاراتُ الإنسان بنبَالة الأهداف العظمى دائماً. لكنها وهي تتقلّب على حجر الواقع وصخوره أنتجت وتكبّدت أهوالَ الفظائع.. ذلك أن نبالة الهدف قد تلعب الأدوار التي تناقض بدهياتها وهي تدعي أنها تجندها لخدمة الصالح العام..
ما فعلته الداعشية حتى الآن ومن قبلها القاعدةُ، وذلك الرهْطُ الواسع من شراذم السلفيات والجهاديات، كان له لون واحد في مختلف أشكاله وخطاباته، إنه القتل الذي لا يبرره إلا المزيد من القتل. فالدائرة الدموية مغلقة على الأيدي التي تستعملها. وبالتالي لا يمكن لصحارى الأشواك والعناكب أن تنقلب بين عشية وضحاها إلى بساتين الربيع وثمار الصيف. فإن إعادة إغراق قارة العرب والإسلام في أظلم عصورها القروسطية، لن تعمل فقط على تأجيل الوعد العظيم بالتنوير النهضوي مرة أخرى من جيل محمد علي. إلى جيل عبد الناصر، إلى جيل المقاومة الفلسطينية والمشرقية، بل لعل عصر الداعشية وأحزابها هي التي أخذت على عاتقها الإنتهاء من تأجيل الوعد. إلى القضاء عليه كلياً، إلى تبديد سرابه، إلى الصعود إلى المنبر الصحراوي الأخير والصياح هناك بأعلى صوت هكذا: أيها الناس لا تقولوا أنكم فقدتم حسّ الزمن، فلم يكن لكم في الأساس زمن ما، لكي تفقدوه لتبحثوا عنه ثانية. فلا بذور لديكم في حاضركم لتزرعوها وتنتظروا منها مستقبلاً مختلفاً..
لكن هل هناك حقاً منبر وخطيب ما يعلو هامته. وهل هناك جمهور يجتمع ويصغي في هذه الصحراء القاحلة.
ما يثير العجب في منعطف المرحلة الداعشية هذه ليس غَلَبة منطق القتل الجماعي والمتضاد بين أقطابه فحسب، فهذا المنطق هو رفيق السياسة وسليلُ تحولاتها الحدية الظاهرة والخفية، والسياسة هي حاكمة العصر الرأسمالي الراهن ظاهرياً،كأنها هي طريقته المفضلة للتعامل مع المشكلات محلياً وإقليمياً ودولياً. والداعشية لن تخرج عن كونها إحدى الألاعيب، وإن كانت هي الأخطر، لسلطان السياسة. بل يبدو أن رأسمالية العصر الغربي الراهن، والموصوف بالآفل أو الموشك على الأفول. لم تعد تجد بين يديها من تراث الإيديولوجيات المستهلكة في جملتها سوى إعادة العالم إلى عنصرياته الأولى بإحياء العصبيات الدينية بين حضاراته ومجتمعاته. فهذه هي حرب القنبلة النووية الممنوعة عسكرياً، ولكن المسموحة اجتماعياً وسياسياً. وحروب «الشرق الأوسط» بين الأمس واليوم والغد هي الشاهدة المصادِقة على نجاعة التفعيل النووي المدمر للقنابل الدينية. والحقيقة ليست هي القنبلة الدينية، بقدر ما هي عقيدة العنف المطلق، فهي التي تضطر في كل عصر دموي إلى التجرد عن اسمها الأصلي، لتتقنّع تحت تسمية (حضارية؟) أخرى. ولقد استنفدت ـ هذه العقيدة ـ مسيرةَ الأقنعة المستعارة من قومويات ونازيات وشيوعيات لكي ترتد في محصلة طريقها إلى مصدرها الأنطولوجي البدئي الذي هو الشر المحض؛ فكشف فيه عن أعمق ما كان يخفيه دائماً، وهو التجرؤ المتمادي على المثل العليا الإنسانية كما اعتادت أن تعرضها الثقافة الدينية منذ عصور، فالداعشي يذبح وهو يردد تعاويذ وآيات قرآنية. لا يعاني أبداً من شعور التعارض أو الإختلاف بين قوله وفعله؛ بل ربما يكون مطمئناً في قرارة نفسه أنه يفعل ما يأمره به دينه..فالشر المحض متوارٍ رغم كثافة حضوره في الفعل الهمجي. لكنه عند المؤمنين بـ (فضائله )، فإنه يتحول في لحظة من الشر المحض إلى (الخير) المحض.. وحارسه الإيمان.
لا يحدث هذا فحسب بالنسبة لأي جزار بشري من دواعش وأمثاله. فإن رئيس الدولة العظمى أوباما الذي فاز بقيادة البيت الأبيض مستعيناً بمبدئية السياسة السلمية لأمريكا المنهكة بحروبها العبثية، والمتهالكة باقتصادها المنهار هذا الذي ما فتئ وهو بالبيت الأبيض رافضاً للحروب، ها هو ينخرط كلياً ودفعة واحدة في حرب عالمية جديدة ضد الداعشية. إنه يجدد كسوة الشر المحض بادعاء الخير المحض. فلا يمكن محاربة الشيطان إلا بأشباه أسلحته عينها. وهكذا يدشن الرئيس المسالم العصر الذهبي لظهور الشر المحض بدون أي من أقنعته التقليدية، حتى ولو كان هو التدين عينه في أتعس أحواله عند داعش وأعدائه معاً.

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.