تركيا وورقة اللاجئين.. حين تكون ورقة اللاجئين ورقة خاسرة ورابحة في الآن نفسه
آلان بيري
معركة إدلب المستمرة منذ أشهر والتطورات الآنية التي نتابعها بتفاصيلها الجديدة وتلك التي تعودنا سماعها خلال فترات متفاوتة من عمر الأزمة السورية المستمرة منذ ما يقارب التسع سنوات – سيما وأن الظرف الذي يحكم إدلب وريفها الآن لا يختلف كثيراً عن ظرف باقي المناطق السورية التي شهدت معارك كثيرة وكبيرة أودت بأرواح الآلاف وخلقت أزمات نزوح ولجوء متكررة وخلفت الدمار المادي على نطاق واسع، شمل البنية التحتية قبل بيوت سكان تلك المناطق – كان لها تبعات على المستوى المحلي ذاك الخاص بإدلب وما أدى إليه حال المعارضة السورية المسلحة، والمستوى الإقليمي الخاص بتركيا على وجه التحديد، كما وعلى المستوى الدولي أيضاً بما يتعلق بالقوى الدولية الفاعلة في الأزمة السورية وعلى رأسها روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية كما ودول الاتحاد الأوربي المجاورة لتركيا أمثال اليونان وبلغاريا.
تطورات معارك إدلب الأخيرة تمثلت في مقتل عدد من الجنود الأتراك إثر غارات جوية مكثَّفة للنظام السوري، الأمر الذي أثار غضب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان معتبراً النظام السوري مسؤولاً مباشراً عن مقتلهم، متوعداً النظام بأنه سينتقم لجنوده شر انتقام. ثم كان أن توجه بأصابع الاتهام إلى الاتحاد الأوربي، مُحّمِلاً الاتحاد مسؤولية ما حدث وما يحدث، ليقوم فيما بعد بتنفيذ تهديداته المتكررة بفتح الحدود أمام اللاجئين المتواجدين في تركيا والحالمين بالوصول إلى إحدى دول الاتحاد الأوربي. وبالفعل، فقد توافرت بين ليلة وضحاها حافلات نقل مجانية للاجئين الراغبين (وما أكثرهم) في الوصول إلى اليونان براً وبحراً أو بلغاريا، فالأمر بالنسبة للاجئين سيَّان، المهم في الأمر هو دخول دولة من دول الاتحاد الأوربي.
لكن الذي حدث هو رفض اليونان (وهي من دول الاتحاد بحيث أن لرغبات بروكسل التأثير المباشر على سياساتها والإجراءات التي تقوم بها إزاء أزمة تدفق اللاجئين، وهذا ما لاحظناه أيضاً في تصريحات المسؤولين اليونانيين حينما وصفوا الأزمة بأزمة أوروبية وأن المشكلة ليست مشكلة وطنية يونانية وحسب، وإنما هي مشكلة أوروبية بامتياز) لدخول اللاجئين أراضيها، وكان أن استخدمت العنف ضدهم.
التطورات اللاحقة تمثّلت في أن عقدت ألمانيا وفرنسا اجتماعاً عاجلاً من خلال الفيديو مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، شارك فيه رئيس الوزراء البريطاني أيضاً. جدد فيه الطرفان (الأوروبي والتركي) التزامهما باتفاقية اللاجئين لعام 2016. ومن نتائج الاجتماع الملموسة العاجلة هي تراجع تركيا عن إرسال المزيد من المهاجرين إلى الحدود اليونانية، لتهدأ الأمور على الحدود وكأن شيئاً لم يكن.
إلا أن ما يثير التساؤل في جملة الأحداث والتطورات هذه قديمها وحديثها، هو الأمور الثلاث التالية:
أولاً: بغض النظر عن سلوك أنقرة فيما يخص بملف اللاجئين، لماذا تخلت أوروبا عن أحد أهم مبادئها المتمثِّلة في دعم وحماية حقوق الإنسان، ومنها منح صفة اللجوء السياسي والإنساني لكل من يلجأ إلى دولة من دولها، بل لجأت إلى استخدام العنف ضد من هم فارون بالأصل من الحروب والأزمات والعنف؟!
ثانياً: بغض النظر عن موقف أردوغان، هل استطاعت أنقرة أن تستفيد من ورقة اللاجئين كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي أم أن أردوغان قد زاد بردة فعله تلك الطين بلة، وأزّم المشاكل القائمة بين تركيا والاتحاد أكثر فأكثر؟!
ثالثاً: ثم لماذا كل هذا الغضب من الجانب التركي، وهل أرواح عناصر فصائل المعارضة السورية المسلَّحة، التي تدعمها تركيا أبخس ثمناً من أرواح الجنود الأتراك حتى لا يغضب الرئيس التركي لمقتلهم كما غضب لجنود بلاده؟
سأحاول الآن الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاث باختصار، تمهيداً للوصول إلى نتيجة ما تقدم آنفاً.
أوروبا حين ترفض استقبال بضعة آلاف لاجئ وصلوا حدودها رفضاً مرفقاً بالعنف، فهي تبرز مبادئها من خلال ذلك على أنها هشة. أين معاهدة حقوق الإنسان الأوروبية من كل ما يحدث؟! هل تطبيق المواد الواردة فيها مرتبط بالظرف السياسي والتطورات المشابهة للحالة التي نشهدها الآن، أم هي معاهدة غير قابلة للمساس، خصوصاً المبادئ المتعلقة بحقوق الإنسان الأساسية؟!
أوربا صاحبة المبادئ الهشة وكي لا تستقبل اللاجئين تلجأ إلى استخدام العنف، وهذا ما يجعلنا نعيد النظر في مبادئها تلك على نحو أكثر جدية. فالوضع الراهن استطاع أن يكشف لنا ذاك الوجه الآخر، الذي وإن كان معروفاً إلا أنه بات أكثر وضوحاً الآن من ذي قبل.
أما بالنسبة لتركيا، فهل استفادت بالفعل من ورقة اللاجئين في الضغط على الغرب الأوروبي؟
أولاً علينا التميُّز جيداً بما يقوم به الرئيس التركي المتفرد بحكم البلاد وبين مصالح تركيا القومية العليا من وجهة نظر المعارضة التركية وتقاليد السياسة التركية في سياق التجربة الجمهورية المتوارثة منذ زمن حكم مصطفى كمال أتاتورك وإلى ما قبل صعود حزب أردوغان وشخصه على وجه الخصوص. الرئيس التركي حين يهدد أوروبا ويبتز بروكسل عاصمة الاتحاد الأوربي فهو بذلك يجعل من الاتحاد خصماً. أما حينما ينفذ التهديدات فإنما يزيد من حدة التوتر بين بلاده والاتحاد أكثر، التوتر الذي تسبب به هو نفسه (فما كانت علاقة الاتحاد بتركيا هكذا أبداً قبل صعود أردوغان، سيما وأن تركيا كانت تريد الانضمام للاتحاد، وما يزال طلب عضويتها قائماً إلى الآن) ويزيد بذلك من حدة الخصومة أيضاً، مما يمهّد الطريق لأَنْ تغدو التوترات هذه إلى خلافات، سيترتب عليها بالنسبة لتركيا الكثير والكثير.
إذاً أردوغان هو من اختلق المشاكل مع الاتحاد الأوربي، وهو بهذا يجر تركيا إلى الغرق في الأزمة أكثر فأكثر؛ الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا حالياً على سبيل المثال نتيجة العقوبات كما وأزمتها الدبلوماسية مع معظم دول العالم نتيجة سياساتها الخارجية.
وبالعودة إلى معارك إدلب وأطراف النزاع فيها والمتمثِّلة بدول داعمة وجماعات مقاتلة على الأرض. حيث أن تركيا تدعم بعض من الفصائل المسلحة في سوريا ممن احتلوا مدن عفرين وسري كانييه وتل أبيض، وتمركزوا في مناطق شمال غرب سوريا. هؤلاء وخلال معاركهم المتكررة سواء مع النظام السوري وحلفاءه أو مع قوات سوريا الديمقراطية يُقتلون على الدوام، ولا يُعرف أعداد قتلاهم. هنا يطرح نفسه السؤال السابق، لماذا يتهاون الرئيس التركي في الانتقام لهؤلاء (الانتقام القائم في خطاب الرئيس التركي أردوغان) ولا يكترث كثيراً لمقتلهم، لا بل يدعمهم بالسلاح أكثر ليُقتلوا أكثر.
النتيجة التي يمكن استخلاصها على ضوء المعطيات السابقة هي أن الرئيس التركي يدفع بتركيا نحو المجهول، ويزيد الأمور سوءاً. وآخر الدلائل كانت ورقة اللاجئين التي استخدمها كوسيلة ضغط وابتزاز، والتي سرعان ما أثارت غضب دول الاتحاد الأوربي مما جعل ورقته الرابحة تلك تنقلب إلى ورقة خاسرة أضرت بمصالح الجمهورية التركية إقليمياً ودولياً، ولم ينتهي الأمر بعد، فما تزال تركيا في بداية طريقها نحو السقوط.
التعليقات مغلقة.