إدواردو غاليانو: الذي علمه التاريخ أن لا يصفح!

28

فهرس

 

 

 

 

 

 

 

(أنا ملخص حالات فشلي. حين كنتُ شاباً، كنت أريد أن أصبح نجم كرة قدم، ولكنني كنتُ أملك قدمين خشبيتين، ثم أردتُ أن أصبح قديساً، لكنني لم أستطع أن أفعل هذا لأنه كانت لدي ميول إلى الخطيئة، بعد ذلك حاولت أن أصبح فناناً، والآن أنا أرسم بالكلمات).
ويضيف في إحدى قصصه: (على فراش الموت، يروي رجل يعمل في الكروم، قبل أن يموت كشف السر هامسا: العنب مصنوع من الخمر.
وبعدها فكرت: إذا كان العنب مصنوع من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن).
يريد الكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو، للتاريخ أن يتنفس من جديد، من خلال كلماته. أن يكون حرا من القوالب. يتحدث عن تاريخ الأمم المستباحة والناس الضعفاء. لا يريده أن يكون مشوها كما يريدون له أن يكون. بل أن يكون حيا لأنه لا ينبغي أن يموت مخنوقا كالوردة في ماء المزهرية.
( لست مؤرخا، أنا كاتب يحب أن يساهم في إنقاذ الذاكرة المخطوفة لكل أمريكا، وخصوصا أمريكا اللاتينية، الأرض المحتقرة و المحبوبة: أحب أن أتحدث معها، أن أتقاسم معها أسرارها، أن أسألها من أي صلصال شاق ولدت ومن أي اغتصابات جاءت).
من (شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة) كتابه في عام 1971- الكتاب الذي يعرض عذابات شعوب أمريكا اللاتينىة، وتاريخ نهب هذه القارة، والذي أهداه الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما في العام 2010، و ذكره الرئيس البوليفي الحالي إيفو موراليس في خطابه الافتتاحي لاجتماع قمة زعماء أميركا اللاتينية 2006، داعيا إياهم لإغلاق «الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية»- إلى ثلاثية (ذاكرة النار)، و(أفواه الزمن)، و(المعانقات) و(كرة القدم بين الشمس والظل) و(كلمات متجولة) و(مرايا) و(أبناء الأيام).
يبدو غاليانو في كتبه وكأنه أخذ عهدا على نفسه بألا يصفح عن المستعمرين الآتين من أوروبا بحثا عن الذهب في الفردوس الأمريكي، وما ارتكبوه عند ذلك من مجازر وعمليات إبادة للهنود الحمر، محاربا المحاولات لطمس هويتهم وتاريخهم وحقهم في تلك الأرض.
ولا عن سياسة الولايات المتحدة التي تريد أن يكون الناس عبيدا للسلعة. ولا عن الديكتاتوريات التي حكمت بلدان أمريكا اللاتينية بالحديد والنار، ومن ضمنها حكومة الأوروغواي، التي أصدرت حكما بتصفيته، وهو الأمر الذي اضطره إلى قضاء أحد عشر عاما في المنافي. بدءا من عام 1973 حيث ذهب إلى الأرجنتين، ثم انتقل منها إلى اسبانيا من 1976 إلى 1984، ليعود بعدها إلى بلاده بعد أن كانت حكومة الأوروغواي التي نفته في أيامها الأخيرة حيث يقول في كتاب المعانقات: (في منتصف عام 1984، سافرت إلى نهر الفضة. كان قد مر (11) عاما لم أر فيها مونتيفيديو، و(8) لم أر فيها بيونس آيريس. غادرت مونتيفيديو لأنني لا أحب أن أكون سجينا، وبيونس آيريس لأنني لا أحب أن أكون ميتا. بحلول عام 1984 كانت الديكتاتورية الأرجنتينة قد غادرت تاركة خلفها دماء وقذارة لا تمحى، وكانت ديكتاتورية الأوروغواي العسكرية في طريقها إلى زوال).
يتحدث غاليانو في الجزء الأول من ذاكرة النار (سفر التكوين) عن لحظات البدء الأولى، مستحضرا أساطيرها. عن الرجل الأول والمرأة الأولى. عن الزمن، والشمس، والمطر، ونجم المساء، والحب، والثلج، والمنيهوت، والحيوانات. ثم يذهب في القسم الثاني من الكتاب ليغطي القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، حيث ترسو السفن الإسبانية الأولى على شواطئ أمريكا. يكتب عن ما تلا اكتشاف أرض الذهب، وعن الحروب والمعارك التي دارت بين المستعمرين والسكان الأصليين، الذين: (كانوا يسمون قوس القزح ثعبان العقود، والسماء البحر الأعلى، ويسمون البرق توهج المطر، والصديق قلبي الآخر، والروح شمس الصدر. وبدلا من: نغفر لكم، يقولون: ننسى).
وفي الجزء الثاني من ذاكرة النار (الوجوه والأقنعة) يغطي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وفي الثالث (قرن الريح) يذهب إلى القرن العشرين، لينثره أمام القارئ بأعلامه، وكتّابه، ومدنه، وطغاته، وأحداثه المفصلية والهامشية.
لا يهتم غاليانو كثيرا إلى شكل كتاباته التي قد تكون عصية على التصنيف الأدبي في بعض الأحيان، فيقول في مقدمة ذاكرة النار، وهذا ينطبق على معظم كتبه التي تتشابه في أسلوب كتابتها: (لا أعرف إلى أي شكل أدبي ينتمي صوت الأصوات هذا. ليس مقتطفات أدبية مختارة وهذا واضح، ولكن لا أعرف إن كان رواية أو مقالة أو ملحمة شعرية أو شهادة أو تاريخا أو… إن اتخاذ قرار حول هذا الأمر لا يسرق مني النوم، كما لا أؤمن بالحدود التي تفصل بين الأجناس الأدبية استنادا إلى ضباط جمارك الأدب). وفي العموم، تتوالى قصص غاليانو القصيرة، وتتفاوت في حجمها ضمن كتبه، وهي تبدو مثل حبات المطر، مشفوعة بنفس شعري من الطراز الرفيع، يتداخل فيها التاريخ بالفلسفة، والعادي بالأسطوري. ولا تقتصر دوما على القص بشكله النمطي، فهو يكتفي في بعض الأحيان بنقل ما كتب على الجدران وفي مانشيتات الصحف. بين المؤرخ والشاعر والقاص. بين الماضي الذي يحاولون طمس ملامحه والحاضر الذي لا ينبغي أن يكون سيئا هكذا، يكافح غاليانو حتى يكون حارسا أمينا للذاكرة،وقد تعلّم من الوقوف على تخومها أن لا يصفح عمن لا يستحق.

عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.