عنق الثقافة وساطور أبي بكرالبغدادي /ابراهيم اليوسف
لم تكن مفاجأة كبيرة، عندما تناقلت وسائل الإعلام أن المدعو خليفة المؤمنين، أبا مكر البغدادي, قد أمر بجمع كتب الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي” ت638″، وحرقها، بعد أن تعرض في حياته -حاشاه أي حاشا متصوفنا ابن عربي- للاتهام بالزندقة، وانقسم العلماء إلى ثلاثة أقسام: منافح عن آرائه، وساكت أو معادٍلها، وألفت عشرات الكتب في رؤاه، واستشراقاته، بين مؤيد، ورافض، وبين، وهو ما يدل على أن ما يقوم به تكفيريو داعش، ليس مجرد مصادفة، وإنما هم استمرار للتيارات التكفيرية التي ظهرت في مراحل شتى، وكانوا الوجه القبيح، في كل مرة، لاسيما إذا عرفنا أن كثيرين من أئمة المتصوفة الذين تقاطعت رؤاهم مع رؤى ابن عربي، سابقين عليه، أو مجددين، واجهوا تهمة الزندقة، بل أن منهم من دفع حياته ثمناً لآرائه، في تراجيديات لا تزال فائحة الدم أوالشواء.
وبات المتابع لما يجري في عدد من البلدان التي اشتد فيه عود هؤلاء الظلاميين يستطيع معرفة أسباب الانتقام حتى من الراحلين من المبدعين، في مجال الثقافة والفن، كما حدث مع تماثيل وأضرحة طه حسين أو أبي العلاء المعري، أو أبي تمام والموصلي إلخ….، بل بلغت بهم القحة أن يهدموا حتى قبر أحد الأنبياء “وهو النبي يونس” بعد سرقة مقتنياته، حيث أن ما يتم لا يولد من فراغ البتة، وإنما يتأسس على مرجعية واحدة، تخالف كل ما هو مضيء في التراث الإسلامي، نتيجة تفاعل هذا الدين، عبر دورة الزمن مع الحياة
وبعيداً، عن تفاصيل كل فعل إجرامي من قبل هؤلاء،على حدة، حيث تم توثيق كل ما هو معلن عنه، من قبل المدونين، بل أن تنظيم داعش لا يخفي ما يقوم به، وإنما يتبجح بأفعاله الشنعاء، لأغراض عديدة، تدخل ضمن إطار سياساته، و هو ما يتم في خط متواز مع قطعه لأعناق الأبرياء، ومن بينهم بعض الإعلاميين الذين ينقلون-بحيادية- ما يتم، كما هو داخل في صميم مهنية ما يؤدونه من واجب مهني، وأخلاقي،منذ خطف الأب باولو ” فك الله أسره وهكذا بالنسبة لكوكبة من الإعلاميين والمثقفين الناشطين، ومنهم: رزان زيتونة وسميرة إلخ، وليس انتهاء بقطع رأسي الصحفيين الأمريكيين:جيمس فولي وستيفن سوتلوف، كدليل على تجرد هؤلاء من الحسِّ الآدمي، ومن القيم، والشرف، والكرامة
إذن، ثمة عداء من قبل هؤلاء، على مختلف أسمائهم، وعناوينهم، للفكر، والإبداع، والفن، مادام أنه لا يدخل في خدمة توطيد أركان الظلامية، وإعادة دورة التاريخ، إلى الوراء، وتحديداً، إلى اللحظة ما قبل”الغابية”، باعتبار أن لعالم الحيوان، نفسه، ضوابطه، وقوانين شريعته التي لايخرج عنها، بيد أن المنتمين إلى داعش يفتقدون إلى مثل ذلك الحد من السلوك الحيواني، -ولوفي توصيفه الغريزي-وهذا يدل أننا أمام كارثة إنسانية، كبرى، وفعلية، لاسيما عندما ندرك أن لهذا التنظيم، مخططه، في إقامة دولته التي لم تعد تكتفي ب”العراق” و”الشام” وإنما باتت تعلن عن توسيع رقعتها، وهو توسيع لدائرة الإرهاب-لا أكثر- وضمن فضاء زمني محدد، لأن الشعوب قد تجاوزت مرحلة التفكير عنها، وتحديد رؤيتها، بشكل مسبق، من قبل أية سلطة كانت، ما لم تؤمن بها، وإن كنا نجد أن هناك من الشذَّاذ، في كل مكان، ممن يساومون على قيمهم، بل وعلى حيواتهم، من أجل منافع واقعية أو افتراضية، ويمكننا هنا، أن نشير إلى من هم حواضن مأجورة، أو طوعية، طبيعية لهذا التنظيم، كما هو حال من ربط مصيره بمصيره، وهو شأنه، وإن كان مجرد داعشيته دليل على هشاشة تفكيره، وتسطحه،ومعاداته لذاته، قبل معاداته للضحية التي يضعها على النطع، وينحرها، لأنه، ما إن يوقع شفهياً، أو فعلياً، على عضويته للتنظيم، إنما يوقع على تحديد مصيره، بلاريب، انطلاقاً من حقيقة أن لا مستقبل للفكر الظلامي، وأدواته، من الإرهابيين-أياً كانوا-وهم ليسوا أكثر من جائحة فكرية، متسلحة بأدوات القتل والدمار، ضد الإنسان، وحضارته، ماضياً، وحاضراً، ومستقبلاً، في آن، وإن كل من يسقط في مثل هذا المهوى من السلوك، محدد الدور، و المصير معاً.
لم ينتظر تنظيم داعش، طويلاً، إلى أن يتبين مصيره، وأن يشدد قبضته على المناطق التي غزاها، ليفرض موقفه من المناهج التعليمية التي كانت سائدة، وتتحمل جزءاً كبيراً من القحط، الخراب الفكري، بل السرطان، الذي أصاب البلاد، فقد زج باسم حافظ الأسد، ليس بين كتب التاريخ، والقومية-فقط- بل حتى في كتب التربية الدينية، هذه الكتب التي يعتاد الطلاب أن يقرؤوا فيها بعض ما يتعلق بأمور الدين، في موازاة ما يقرؤونه عن أمور الكون، والكائن، ومن دون أن يكون فيها سوى أسماء الأنبياء، والرسل، مع اسم الخالق، وإن كنا سنجد-وعلى نحو سريع أسماء بعض الصحابة أو رواة الأحاديث النبوية، بيد أن عملية”غسيل الدماغ” شملت مناهج التربية كلها، وتم تشويه ثقافة أجيال كاملة، ماعدا هؤلاء الطلاب الذين علموا أبناءهم، في بيوتهم، أن ما هو موجود في المناهج التربوية، والتعليمية، مزور، وراح بعضهم يدبج طرائف، حول إقحام اسم الأسد في هذه الكتب، لا مجال لها هنا،وهو ما كان يتم ضمن فضاءين: أحدهما مدرسي، توجد فيه هيئات الشبيبة، والبعث، والاتحاد الوطني، ومدرب الفتوة، بل وأن بعض الهيئات التربوية تفرد كراسي في بعض مكاتب إدارتها لوفود عناصر الأمن الذين يقتحمون حرمة هذه الصروح التعليمية، يستجوبون الطلاب، أو مدرسيهم، ويجندون أبعاضهم لكتابة تقارير كاذبة، عن بعضهم بعضاً، تحت إشراف إداريين، ومعلمين، ومدرسين، متعاملين مع السلك الأمني، و ثانيهما خارج المدرسة، حيث إرهاب صورة”القائد”، المنتشرة، في الشارع، والمؤسسة، والإعلام، ومراكز الثقافة، كرمز لتسلط دكتاتوري زرع الخوف، والشكوك، والتنابذ، في نفوس السوريين، وما يحدث الآن، في سوريا، إلا نتاج كل هذه التربية، والسلوك.
أجل، هكذا كانت المناهج التربوية، في مرحلة ما قبل داعش، في سوريا، وإن راح يتم التخلص -في المناطق المحررة- من صور الدكتاتور، ولوثة”أقواله” وأقوال”أبيه” التي فرضت على الناس، ليستظهروها، أكثر من النصوص الدينية، كي يتم اغتصاب التربية، على نحوآخر، من البشاعة، ومن خلال الوجه الآخر للإرهاب، الوجه الداعشي، المقابل للوجه البعثي، برمزه الأسدي، حيث تم استبدال”وزارة التربية” ب” وزارة التربية والتعليم” بعد أن كانت وزارتين، وقد أصدر”ديوان التعليم” ، التابع للوزارة المستحدثة، قراراته الموقعة باسم مسؤولها “ذي القرنين” لطفك يا الله..!، بإلغاء التربية الموسيقية التي عنى بها بعض كبار العلماء المسلمين، وهكذا بالنسبة للتربية الفنية، والرياضة، والفلسفة، وعلم النفس، بل و النشيد “الوطني” وحتى الديانتين: الإسلامية والمسيحية، على أن تصدر بدلاً عنها” مواد تعويضية” ، وليتم حذف علم “النظام” واستبداله ب”علم داعش” بل وستستبدل خرائط الكتاب، بخريطة داعش، بل إن اسم “الجمهورية العربية السورية” كما أقره” القومجيون” بدلاً عن “الجمهورية السورية” الذي استمر حتى ستينيات القرن الماضي، سيتحول إلى”الدولة الإسلامية”..!.
كما أن مادة “الرياضيات” نفسها، رغم حياديتها، لم تنج من”ساطور” داعش، إذ نص القرار”الديواني” على مسح كل عبارة تتعلق بالربا، أو الربوية، وأن كل ما يتعلق في مادة العلوم بنظرية داروين، ومتعلقاتها، يجب حذفه، وعلى المربي، في القاعة الصفية، أن يؤدي وظيفة مدرس الديانة، حتى ولو كان يشرح درساً، في الكيمياء، أو الفيزياء، فإن عليه أن يقول: قوانين الفيزياء والكيمياء هي قوانين الله، وكأن في عدم قوله ذلك، انتقاص لقدرة الخالق، بل إن على مدرس الرياضيات، حين يتحدث عن الخطين المتوازيين، أن يقول: لكنهما يلتقيان بإذن الله تعالى..!
ومن ضمن ملحقات، وتفاصيل، القرار الموازي الذي صدر مع هذا القرار الديواني”ذي القرنين”، وهو ضرورة إخضاع المدراء و المدرسات والمدرسين إلى”دورات شرعية إلزامية”لمدة أسبوع، كما أنه يمنع تدريس الذكور للإناث، والعكس، وأن تكون أمكنة تعليم الجنسين منفصلة، عن بعضها بعضاً، وهو ما سيطبق-حقاً-في محافظتي: الرقة و ديرالزور، اللتين صارتا تحت قبضة داعش، وإن كان بشارالأسد الذي طالما اجتر شعارات أبيه في تحرير فلسطين، راح يتحدث عن تحرير إحدى محافظات البلد الذي يحكمه، دون جدوى، ليكون في بلد الرعب مناهج عدة، في كل محافظة، لاسيما أن هناك قوى متدرجة التكفير، ستكون لها آراؤها، هي الأخرى، بل ربما أن المناهج التربوية ستختلف ضمن حي وآخر، وضمن شارع وآخر، و لا يزال كرسي”القائد الضرورة” محمياً بالدماء، والأرواح، وبيبلوغرافيا الهجرة، وطبوغرافياها، ومن ذلك:والسجن، والمعتقل، والمقابر الجماعية، والفردية لضحايا التعذيب والإعدامات مختلفة الجهات القاتلة.
بادٍ، للعيان، جميعاً، أن ما يجري على صعيد التدخل في فرض محض منهاج تربوي أحادي، سواء أكان في أقصى هذا الطرف من”الفرجار”أو ذاك، فإنما منطلقهما واحد، بمعنى أنهما وجها عملة زائفة واحدة، باعتبار أن لا شأن للمواطن السوري-العادي- مما يضاف، أو يحذف، فهو ليس ناجماً عن رغبته، بل مفروض على إرادته، وهو أشد أنواع التسلط، أو الإرهاب الثقافي الفكري المفروض على المختبر الاجتماعي، من دون أن إلا في خدمة ما هو مفروض على الناس، على حساب التفاعل مع اللحظة الزمنية، أو أسئلتها، ويغدو الأمر أكثر إرهاباً، حين يتم الضرب بيد ساطورية من قبل الأدوات الباطشة التي توطد شؤون هذه الحالة التسلطية، الاحتلالية، أوتلك، فلافرق-إذاً-بين صورة رئيس يدعي أنه وصل إلى سدة الحكم عبر صناديق الانتخابات ذات العيار”تسعة وتسعين فاصلة تسعة وتسعين”، أومن وصل سيفه إلى الرقاب، بمعيار، مختلف، موائم، لا حاجة له-أصلاً-للصندوق المذكور، مادام أنه يدعي أكذوبة انطلاقه من نص، يقوم على نحو عملي بهدمه، ومناوأته، في أخطر غزوله، قبل غزو بلاد الناس، وحصاد أرواحهم، وانتهاك أعراضهم.
ثمة عودة، إذن، الآن، وغداً، إلى ثقافة ما قبل الجاهلية، من خلال سطوة إرهاب هؤلاء الجهلة الخارجين، من مستنقعات التاريخ، العفن، عبر فرض ثقافة بخسة، كريهة، منبوذة، ديدنها إذلال من كرمه الخالق، في أحسن تقويم، ومواجهة الخالق بنحر إنجازه”نحر أعظم مخلوقاته” متنكرين، لما تحقق حتى ضمن الفضاء الإسلامي، من”اعتدال” ولوفي حده التوصيفي، أو الوصفي، بات محط اهتمام العلمانيين، أنفسهم، لاسيما عندما يكون هذا الاعتدال نتاج قناعة، لا نتاج”تكتيك”عابر، وهو إنذار للعالم كله، كي يتحرك لوضع حد لهذه الجائحة الإيبولية التي تتهددنا، من الجهات كلها، وهي-في الأصل- تجعل من مكاننا، منطلقاً لمواجهة العالم، ومن بينه صانعوهم، ومصانع سيئي الصنيع، نفسها، ولعل الخوف يتفاقم من قبل هؤلاء، عندما نعلم بأن هناك طواقم، كادرية، أو أكاديمية، كاملة باتت تحت خدمة هؤلاء، منهم من كان يعمل ضمن آلة النظام،ومن شأن هؤلاء التبدل فقد وقف هذا النموذج مع الجيش الحر، ومن ثم جبهة النصرة، وها هو يقف مع داعش”وحبلهم على الجرار”، بالإضافة إلى من تم إعدادهم في”الكواليس/المطابخ” الخاصة، ككوابيس، موجهة، لأداء مهماتها التدميرية،وإن كنا نجد أن داعش سوف يكرر ما قام به ابن لادن، من خروج على من أعدوه، في مهمات جديدة، خاصة به، ومن يدري أننا قد نكون غداً على موعد مع صور”البغدادي” بدلاً من صور الأسد، وصور سفاحيه، بدلاً من صور أصحاب الكشوفات الكونية الكبرى، وواضعي النظريات الخالدة، وإن كان-أي غد لهؤلاء-لابد وأن يتبع، بعودة مركبة التاريخ، إلى مساراتها الفعلية، حيث سيكنس هؤلاء، ومعهم تهويماتهم، وأخيولاتهم، المريضة، إلى مزابل الزمن.
عن روداو نت
التعليقات مغلقة.