قراءة في الوضع الراهن – شرق الفرات – بعد عملية نبع السلام
أكرم حسين
في البداية لا بد من التأكيد على أن تعقيد الوضع السوري هو نتيجة طبيعية لتعدد الأطراف الإقليمية والدولية التي ترتبط خلافاتها بقضايا لها علاقة بخارج الأرض السورية مثل السيطرة والقطبية والخلاف الأمريكي الأوربي مع روسيا بسبب احتلالها لشبه جزيرة القرم ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا وقضايا النفط والطاقة والسلاح …وبالتالي فالحل المتوقع لابد أن يكون محصلة متحولة لهذه المؤثرات والعلاقات الدولية المتشابكة في ظل غياب الناظم الوطني الذي يتلمس المصلحة السورية عبر هذه التحولات واستنادا إلى المعطيات القائمة والظروف الواقعية لا بد من أن نعرف الوجهة التي تتجه نحوها سوريا والسيناريوهات المتوقعة بالاستناد إلى نتائج تحليل علاقات ومصالح الدول ذات النفوذ والعوامل المؤثرة في صيرورة الصراع القائم فيها وعلى أرضها واستقراء التطورات الديناميكية المتحولة.
لقد مهدت الثورات التي حصلت في تونس ومصر وليبيا واليمن لما حصل في سوريا فبعد عقود من القمع والاستبداد بدأ التحرك ببعض الأعمال التي تجاوزت حاجز الخوف والقمع كتظاهرة الحريقة في 17 شباط 2011 والتي كان شعارها (الشعب السوري ما بينذل )وتظاهرة شباب الحميدية في 15 آذار 2011 والاعتصام الذي جرى أمام وزارة الداخلية من أجل الإفراج عن المعتقلين في 16 آذار 2011 كل هذه التحركات مهدت لانتفاضة درعا في 18 آذار 2011 وقد أدى استخدام النظام للحل الأمني وانسداد الأفق والحصار وعدم وجود قوى أو قيادات ثورية للانتفاضة السبيل للإسلاميين إلى اختراق فعاليات الثورة من باب الجيش الحر لامتلاكهم الدعم والمال حيث تشكل هذا الجيش بهدف الدفاع عن المتظاهرين وحمايتهم، وما إن رأى النظام عدم تمكنه السيطرة على المظاهرات بالقمع والاعتقال اختار المغامرة على موضوعي العسكرة والأسلمة فكانت الثورة هي الضحية بوصفها ثورة ضد الاستبداد وبذلك دفعت الثمن مرتين‘ مرة من قمع وتسلط النظام ومرة أخرى من تسلط الفصائل المتطرفة لكنه عندما ترنح النظام في 2015 استنجد بالروس والإيرانيين الذين تمكنوا من قلب المعادلة على الأرض بالاعتماد على القصف المدمر وسياسة الأرض المحروقة بينما كان التحالف الدولي منشغلا بالتصدي لتنظيم داعش والذي أقام دولته في سوريا والعراق وبذلك كانت الثورة ضحية لعوامل ثلاثة: قمع النظام وحلفائه وأسلمة الثورة وصراعات القوى المتدخلة في الشأن السوري ولتتحول الثورة إلى مجرد طاقة كامنة للتغيير.
إن ما حصل في سوريا هو الأكثر كارثية على مستوى العالم منذ الحرب العالمية الثانية وذلك فيما يتعلق بحجم الخسائر البشرية – (وصل عدد القتلى إلى 511 ألف حتى شهر آذار 2018 حسب المرصد السوري – إضافة الى مئات الآلاف من الجرحى والمعاقين والمعتقلين والمنفيين –كما نزح أو هاجر نصف سكان سوريا حيث قدرت الأمم المتحدة عدد اللاجئين إلى دول الجوار وغيرها بأكثر من 5 ملايين ونصف وأكثر من 6 ملايين من المشردين داخليا ).
وقد أشار تقرير الأمم المتحدة لعام 2016 حول سوريا إلى حاجة معظم سكان سوريا إلى الغذاء والرعاية الصحية وحاجة أكثر من 6 مليون طفل إلى التعليم بينما بلغت خسائر سوريا الاقتصادية لأكثر من 250 بليون دولار أمريكي حتى العام ذاته. لكن تقرير وزارة الخارجية الألمانية والتي سربته مجلة دير شبيغل في أوائل عام 2019 إلى أن 69%من السوريين يعيشون في فقر مُدقّع لأنهم يحصلون على أقل من دولارين في اليوم كما أن أكثر من 18 مليون سوري يعيش على المساعدات في ظل تدمير المشافي والبنية التحتية.
يمكننا أن ندرج الثورة السورية منذ مطلع 2011 في سياق بحث السوريين عن دولتهم المفقودة وحقوقهم المهدورة ومواطنيتهم الغائبة. كما أن الكرد قد وجدوا فيها فرصة حقيقية لإنهاء المظلومية التي أثقلت كاهلهم وتحقيق الاعتراف بوجودهم وانتزاع حقوقهم الثقافية واللغوية في إطار دولة المواطنة المتساوية.
لم تحركهم النزعات القومية ولا الدينية ولا الطائفية لكنها الآن هي التي تحركهم في معظم ما يقومون به من أفعال. فكل من السلطة والقوى العسكرية الأخرى استطاعت أن تقنع جماعاتها بشعارات طائفية أو عنصرية أو احتلالية أو انفصالية في ظل غياب أو ضعف الأحزاب الوطنية أو الديمقراطية أو العلمانية. هذا الوضع شحن التمايز الهوياتي المذهبي وحرض الصراع على خطوط طائفية وقومية ومذهبية.
لكن الصراع المتواصل بعد عمليتي “غصن الزيتون ونبع السلام ” والآن قصف إدلب دفع السوريين بالتحرر من الأوهام السابقة والإجابة على الأسئلة الرئيسية في الصراع: أي دولة نريد؟ ما هو شكلها وطبيعة نظامها السياسي؟ هل نريد دولة مدنية أم علمانية؟ رئاسية أم برلمانية أم مختلطة؟ مركزية أم لامركزية؟ وما هي حظوظ الفيدرالية منها؟.
أسئلة شائكة ومعقَّدة يجب أن يتوافق السوريون حولها كي يستطيعوا أن يرسموا شكل دولتهم ويصوغوا دستورهم القادم ويتجاوزا ما هم فيه.
لقد حصلت مستجدات عديدة في شمال وشرق الفرات بعد الغزو التركي على منطقتي سري كانيه (رأس العين) وكري سبي(تل أبيض) وفي الوضع السوري عامة سأحاول التركيز على ما هو ديناميكي ومتحرك في الوضع العام:
1-إدلب اليوم عنوان رئيسي فيما جرى وما يجري والتساؤل الذي لا بد من طرحه هنا هل تدفع إدلب ثمنا لما حصلت عليه تركيا في شمال وشرق الفرات؟ وهل كان باستطاعتها أن تحصل على ما حصلت عليه بإبعاد (قسد) وتفعيل اتفاقية أضنة والقضاء على الحلم الكردي دون أن تدفع إدلب ثمنا لذلك من غير اكتراث بأرواح السوريين ودمائهم وحصول كوارث إنسانية بسبب عمليات النزوح وانعدام المأوى وعدم توفر مستلزمات الحياة.
2- أفرز الوضع وجود ثلاث قوى رئيسية في شرق الفرات أمريكا وروسيا وتركيا إضافة إلى (قسد) التي تفتقد الإطار الرسمي الذي يمكن أن يحميها (دوليا) فما هو موجود قسديا حالة ما دون دولية محمية بالوجود الأمريكي والذي أعيد انتشاره في مناطق النفط وباتت (قسد) على تماس مباشر معه بعد أن انسحبت من الحدود مسافة 32 كم بموجب اتفاقيتي 9 و22 من الشهر العاشر لعام 2019.
تكمن المشكلة الأساسية لقسد في التهديدات التي تواجهها الآن، ليس من تركيا وحدها بل من الروس والنظام وبعض العشائر الموالية، فتصريحات أردوغان الأخيرة بضرورة انتزاع النفط من (قسد) وتوظيفه في بناء المستشفيات والمدارس وانشاء المدن من أجل إعادة مليون لاجئ سوري وتوطينه في المنطقة المسماة بالآمنة يزيد من المخاطر المحيطة بـ (قسد) والمنطقة ككل.
3- وجود محاولات حثيثة من الترك والنظام وروسيا لضرب العلاقة الكردية العربية بإشاعة أجواء سوء الظن وانعدام الثقة والعمل على تراكمها من خلال الممارسات التي تجريها مجموعات “الجيش الوطني” الموالية لتركيا من نهب وسلب وخطف يصل إلى حد القتل والاستيلاء على الممتلكات الهدف منها تخريب العلاقة بين الكرد والعرب وزرع الضغينة والحقد وإقامة مجتمعات عنصرية مغلقة، وفي هذا الإطار تأتي محاولات النظام وروسيا في رفض التفاوض مع قسد أو الإدارة الذاتية كممثل عن مكونات شمال وشرق سوريا وحصر تمثيلهم في المكون الكردي.
4- لا شك أن المشكلة الكردية والعربية في مناطق الجزيرة أو شمال شرق الفرات هي واحدة لا تتجزأ وقضاياها متداخلة ومترابطة فيما يتعلق بالوضع القائم الآن والسرد لما جرى مع اندلاع الثورة السورية وربما العودة إلى ما سبق (وحدة المصير): الموضوع يتعلق بالاستبداد والإقصاء والإهمال والتهميش وتوزيع الثروة وقضايا الحريات والمساواة والعدالة والمواطنة وحقوق الإنسان وعدم الاعتراف بالآخر.
على الجميع أن يتراجع قليلا أو أن يقف ويطور من رؤيته للأوضاع الناشئة وتحديد إطار شامل للعمل النظري والممارسي وبالتالي تحديد الموقف من جميع القوى داعش والنصرة وقسد والجيش الحر أو الجيش الوطني وأمريكا وروسيا وتركيا.
التعليقات مغلقة.