السوريون.. لزوم ما يلزم

51

مرح البقاعي

التوافقات بين موسكو وواشنطن، ما زالت قيد الأخذ والرد قياسا على ما يحققه الطرفان من مكاسب أو يتكبدانه من إخفاقات ميدانية كانت أم سياسية.

انقضى ما يقارب العقد من الزمن على خروج الشعب السوري في عام 2011 مطالبا بالانتقال السلمي لسلطة لا سيد فيها إلا الإنسان السوري، ولا إرادة ترتفع إلا إرادته الوطنية في استقلال قراره وضمان حريته وكرامته الإنسانية.

ذاك الخروج الأعزل والكبير أوقعه فريسة شتى أنواع العنف على الأيدي السوداء لفريق الاستبداد القابع في دمشق، كما تناوله حقد الميليشيات الطائفية النصيرة للسلطة بألوان الأذى والإرهاب والتهجير المبرمج كافة، ودمّرت سيادته مطامع الدول المتدخلة الباحثة عن مصالحها الجيوسياسية على الأرض السورية.

ومن تجويع واعتقال تعسفي وإخفاء قسري وتنكيل، إلى تعذيب وقتل بشتى أنواع الأسلحة التقليدية منها وغير التقليدية، اندفعت أسراب النازحين خارج الحدود باتجاه مصائر مجهولة، وانتشر السوريون عبر البحار في حملة هروب انتحاري على قوارب الموت، فكانت تغريبة الدياسبورا السورية التي لم يشهد التاريخ لها مثيلا؛ إلا أن أفئدتهم بقيت معلّقة على شبابيك بيوتهم المهجورة، وعيونهم ترنو إلى مسقط الرأس تتابع تفاصيل أحداثه، وتضطرب لخلجات أوجاعه.

ما حدث في سوريا يرتبط ارتباطا عضويا بمظاهر الإطباق على السلطة بدمشق على يديْ الأسديْن، الأب والابن، في ما قبل عام 2011 بعقود؛ أما حدث الثورة فجاء ارتدادا لأعراض المرض الذي ابتُلي به الجسم السوري من انتشارٍ للفساد، وضربٍ للحقوق المدنية، وشحن طائفي علني وتغوّل فئة ضيقة -محسوبة على الدوائر الأسدية- على عامة السوريين، وأخيرا انهيار العقد الاجتماعي بين السوريين!

من حتمية الواجب الوطني اليوم أن يجتمع السوريون على إعادة كتابة عقدهم الاجتماعي، ليستعيد السوريون مرجعية هويتهم التي بدأت تتمزق بين موال ومعارض ورمادي، وكذا المعنى الجوهري في كونهم مواطنين لوطن واحد، بعد أن عاقروا كأس الافتراق الزعاف في حرب جائرة فُرضت عليهم.

أما المعارضة التي اضطلعت بتمثيل الشعب السوري في المحافل الدولية ومراكز صنع القرار العالمي، فلم تكن -على المستوى السياسي- أقل تفككا وتشرذما من حال مواطنيها العالقين على حافات بلدهم بين مخيم بائس، ومخفر حدودي لدول أجنبية.

وَسَمَ ضعف الأداء، والملحقية في اتخاذ القرار، وغلبة إرادة الفرد على روح الجماعة، صفوف المعارضة على وجه العموم، إلا ما ندر من اجتهادات لأفراد آثروا العمل بعيدا عن المؤسسات المتنقلة بين الفرضيات والولاءات تنقلا متسرّعا دفع بالجميع نحو الفوضى.

استحقاقات جوهرية بانتظار السوريين في وقت يتعطل فيه المسار السياسي بسبب الاصطفافات الدولية من جهة، والاضطراب الذي يسود الجسم السياسي للمعارضة من جهة أخرى. تلك الاستحقاقات يلزم السير نحوها بالحس الوطني النظيف، والتجهيز الذكي المدروس، وابتكار الآليات والسبل لمواجهتها والتعامل معها بما يعزّز المصلحة الوطنية للشعب السوري، ويحقّق بعضا من تطلعاته التي دفع لأجلها ثمنا لم يدفعه شعب آخر في التاريخ المعاصر.

السوريون بأمسّ الحاجة إلى عهد جديد يجتمعون عليه، ينبني على تفاهمات ما بعد ثورة كبرى خرجت على أشكال الاستبداد والاحتكار والتسلط الطائفي كافة؛ عهد لبناء مجتمع جديد يحتفي بالآخر المختلف ويعترف بالحقوق القومية المستحَقة لمكوناته كافة، ويفخر بلغات أبناء تلك المكونات وثقافاتهم؛ مجتمع جديد يقوم على مبادئ العدالة الاجتماعية، والليبرالية الثقافية التي تشبه هويتنا ولا تتشبّه بالهويات المستوردة، والديمقراطية التي تتساوى فيها الفرص فتخلق بيئة ملائمة للتنمية ومواصلة الدور الحضاري التاريخي الذي عرف به الشعب السوري العريق.

لا بد من وثيقة عهد جديد ترسم خارطة طريق لدولة يسودها القانون حيث يكون السوري حصينا خلفه، محميا بميثاقه، مطمئنا لمستقبله ومستقبل أبنائه؛ عهد يكفل الحرياتِ والمحاسبة واحترام القانون، ويضمن الحقوق المدنية في التعليم والصحة والممارسة الفكرية والسياسية والحزبية، عهد يدرك قيمة الثقافة السورية التي هي نفط سوريا وذهبها الأول واحتياطيُّها الاستراتيجي، عهد يجعل من سوريا دولة تتساوى فيها الحقوق ما بين الرجل والمرأة، وحيادية تجاه الأديان، فمن المؤكد أنها ستفصل الدين عن السياسة، لا تمييز فيها بناء على القومية أو المذهب أو الطائفة، دولة واحدة أرضا وشعبا، حيث السوريون وحدهم يملكون حق تقرير مصيرهم وطرد كل محتل لأرضهم (يتساوى في صفة الاحتلال صديق الشعب السوري وعدوه طالما يرفع سلاحا وعلما أجنبيا على أرضه)، دولة يحميها جيش وطني يؤمن بعقيدة واحدة هي حماية الشعب والأرض والحدود الوطنية وليس الدفاع عما وراء الحواجز الإسمنتية لأفرع الأمن ومعاقل الطغاة ومصاصي الدماء، دولة تنبني برؤى وأدوات مؤسسات حداثية قادرة على توظيف طاقات سوريا وكفاءاتها، واستثمار ثرواتها الكامنة، والأخرى الجارية من أنهارها وشواطئها.

سوريا التي غادرناها يوما مرغمين ولم تغادرنا أبدا، تحضر اليوم بقوة في المحافل الدولية، وعلى أجندات الدول المؤثرة، وفي شهقة شوق كل سوري؛ كما تحضر بعاصمتها دمشق، المدينة الباسقة كشجر حورها الممتد على جانبي بردى، ابنة آلاف السنين من متوالية الحضارات الإنسانية.

إلا أن حضور سوريا وعاصمة الأمويين مشوب بالترقّب والقلق والكثير من الغموض؛ فكبرى محافظاتها إدلب ما زالت في عين عاصفة العقاب الجماعي، والقتل بالجملة. أما التوافقات بين اللاعبيْن الأعظمين، موسكو وواشنطن، فما زالت قيد الأخذ والرد قياسا على ما يحققه الطرفان من مكاسب أو يتكبدانه من إخفاقات ميدانية كانت أم سياسية هي العصا المعطّلة لعجلة المسار السياسي الذي يسير أصلا بقدم واحدة.

ما يلزم السوريين اليوم، وبتصرّف، وقفة جادة واستدراكية تراجع ما مضى وتستحضر منه الدروس، وتراقب الحاضر وتتفهم حيثياته لتؤثر فيه، وتعدّ بحذر وتبصّر عهدها الجديد ليكون جواز دخولها إلى المستقبل.

نقلا عن العرب اللندنية

التعليقات مغلقة.