الأكراد لم يقتدوا بالعرب … ونجحوا
رولا الخطيب
لم يكن قرار العودة الى العمل الميداني سهلاً بعد اربع سنوات.
كثيرة هي المستجدات التي طرأت على حياتي الخاصة … فقد أصبحت أماً لطفل لم يتجاوز السنتين وثمانية أشهر, وفكرة تركه لعدة أيام لم يكن سهل تقبلها في البداية
لكن شغفي دفعني للموافقة على طلب الإدارة الذهاب الى كردستان لعمل سلسلة من التحقيقات.
أقلعت الطائرة من دبي الى أربيل المدينة التي زرتها مرات عدة سابقاً.
اتذكر رحلتي الاولى عندما لم يكن الإقليم على خط الكثير من شركات الطيران العالمية.
استقلينا طائرة تدعى بساط الريح … اسم يشبه الحالة التي عشتها حينها, فكأنني كنت أسبح في الهواء ولم اتخيل اننا سنصل الى وجهتنا, فالطائرة تتمايل وصوت المحركات لم يكن هناك ما يعلو فوقه.
حينها حطينا فيما قيل لنا بأنه مطار … قاعة صغيرة وعدد من الغرف. اما اربيل فلم تكن سوى قرية كبيرة.
اليوم انقلبت عاصمة الإقليم راساً على عقب, والتحول طال كل زاوية.
المطار بمعايير دولية … شركات طيران عالمية تحط على مدرجاته … الموظفون على قدر عال من الحرفية ويتحدثون عدة لغات.
اما القرية الكبيرة فلبست ثوب المدينة … سلاسل الفنادق العالمية تنتشر في كل أرجاء العاصمة ووصلت الى دهوك … الأبراج تتلألئ حول القلعة الأثرية … الماركات تزين الواجهات … وأفرع العديد من المطاعم والمقاهي المشهورة باتت في كل ركن.
الأكراد لم تتبدل أخلاقهم … فهم ما زالوا ذلك الشعب الطيب الكريم الخلوق المتعلق بقوميته … معلمون مثقفون محبون للمعرفة والاطلاع على كل ما هو جديد…. لكن دون أن يخلعوا زيهم الكردي.
قليل ما تلتقي بشعب يشبههم … ابتسامة لا تفارق محياهم … إرادة وتشبث بالحياة … فخر واعتزاز بالهوية دون الهبوط الى درك الغرور … نفوس قوية وصبورة تهزم الفشل والنكسات لتخرج حاملة الإيمان بالقضية والتمسك بالمبادئ.
الأكراد بشيبهم وشبابهم حراس الوطن المنشود … عيونهم مفتوحة للحفاظ على إقليمهم وما أنجزوه … دون أن يكونوا مخبرين على بعضهم البعض كمدارس العديد من الأنظمة العربية.
خلال إعدادي لعدد من التقارير قصدت عدداً من مقرات “الأشايس” اي الأمن العام الكردية … لتكون المفاجئة … أجواء حميمية وأخوية … استقبال وضيافة … ضحك ومزاح … لا تشبه المراكز الأمنية في بلادنا … فلا رهبة ولا خوف … وكل ذلك دون اي تهديد أو مساس للأمن القومي … وعندما سألت أحد الضباط عن السبب, كان رده: على المواطن أن يشعر بالإرتياح والأمان عندما يراني وألا يهابني ويرتعب مني سوى المجرم والإرهابي.
مجازر … إبادات … تهجير … حروب … تهميش … إقصاء … كلها محن خبرها الأكراد على يد العرب وغيرهم, إلا انها لم تحولهم الى قنابل كراهية موقوتة تنفجر بمن حولها …
فالأكراد لم يقتدوا بالعرب … ونجحوا …
فإذا ما نظرنا الى واقعنا العربي اليوم … حماس إنتقمت من فتح … داعش جاءت نتيجة سياسات المالكي الإقصائية والأسد القعمية … المالكي حاقد على حقبة صدام حسين … حزب الله حمل راية “المحرومين” ليدوس بها على باقي اللبنانيين … الليبيون تجاوزوا بأشواط إجرام القذافي … وحدث ولا حرج مع باقي الدول العربية…
أما الأكراد بقيادة كاك مسعود برزاني تخطوا شعور المظلومية.
إنهم يسيرون الى الأمام بخطى واثقة وعقل مستنير … الماضي مرحلة نضال زرعوها لينطلقوا الى المستقبل الذي يريدونه.
ففي أكتوبر الفائت نفذ الكوماندوس الكردي بالتعاون مع الأميركيين عملية على أحد سجون داعش معقلهم في الحويجة. الهدف من العملية كان تحرير 69 عربياً بعد وصول معلومات إستخباراتية بأن التنظيم سيقوم بإعدامهم بعد ساعات. واليوم هؤلاء المحررون يعيشون بحماية “الأشايس” بإنتظار لم شملهم مع عائلاتهم.
في ذمار حكاية أخرى, خلال رحلتي الى هذه المنطقة لإعداد بعض القصص التلفزيونية, أخبرني أحد اعضاء الحزب الديموقراطي الكردستاني أنه بعد دخول داعش الى مناطق الإقليم لاحظوا وجود نزعة معادية للعرب في أوساط الشباب الكردي … هذا الأمر أرق القيادة الكردية فعملت على تحضير ندوات ومحاضرات ألحقوها بحملات إعلامية لمواجهة هذه النزعة, وهي وفق هذا العضو نجحت الى حد كبير بتغيير رأي الكثيرين.
وصلنا الى ذمار, هي مناطق كردية بمعظمها إلا أن الرئيس العراقي السابق صدام حسين عمل منذ السبعينيات على تعريب اجزاء منها. عند دخول داعش اليها في اغسطس 2014 نزح سكانها العرب والكرد. لكن بعد تحريرها على يد البشمركة أصر الرئيس مسعود برزاني على إعادة سكانها العرب الى مناطقهم وتأمين كل مرافق الحياة لهم من كهرباء ومياه وإعادة بناء ما هدمه المتطرفون.
سياسة رئيس الإقليم الإنفتاحية والتصالحية ليست نهجاً فردياً, بل خارطة طريق تعمل عليها القيادة الكردية. ولحظتها في الكتاب الذي أهداني إياه صديقي العزيز سكرتير المكتب السياسي للحزب الديموقراطي الكردستاني الأستاذ فاضل ميراني بعنوان “قراءة في فكر الحزب الديموقراطي الكردستاني – الإختلاف والبناء”.
فهو يؤكد على دور الشباب وطاقاته وضرورة إلباسه ثوب الحضارة دونما التخلي عن الموروثات والتقاليد
أهمية المزاوجة ما بين العدالة والحرية
تحقيق المساواة بين المواطنين من مختلف الأطياف والمذاهب والاعتراف بحقوق الأقليات والقوميات
فك الارتباط ما بين القومية والتعصب بل وتحميلها رسالة انسانية … إنها دعوة للكرد للوقوف على مسافة من القوميات الاخرى تكون بينهم وشائج المحبة والصداقة.
عدت بعد خمسة أيام الى دبي … محملة بطاقة من القوة والفرح زرعها بداخلي كل من التقيته … وطبعاً مشتاقة الى كريم وحاملة له كل الدروس التي تعلمتها من الكرد …
نقلا عن العربية نت
التعليقات مغلقة.