بقاء أميركا في سوريا مهم لدورها في المنطقة

69

 

شارلز ليستر

على مدار الأعوام الثمانية السابقة، كثيراً ما وُصفت الأوضاع في سوريا بأنها فوضوية أو معقدة. بيد أن هذه الفوضى والتعقيدات قد ازدادت سوءاً خلال الأسابيع الأخيرة. وفي أعقاب المكالمة الهاتفية التي جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع نظيره التركي إردوغان ثم التوغل العسكري التركي اللاحق في شمال شرقي سوريا، تمخض سباق وحشي ومحتدم وسريع للغاية بغية السيطرة وبسط النفوذ على ما يمكن الاستحواذ عليه من الأراضي. وتعرضت «قوات سوريا الديمقراطية» لنيران القوات التركية، ولا سيما بعد انسحاب القوات الأميركية العاجل من مواقعها في شمال شرقي البلاد، ما أسفر عن فقدان «قوات سوريا الديمقراطية» لمزيد من الأراضي، الأمر الذي أدى إلى تحرك القوات الروسية والحكومية السورية لملء الفراغ الناجم هناك. وعلى الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار المبرم مرتين متوازيتين (بين تركيا والولايات المتحدة، والآخر بين تركيا وروسيا)، ما وضع خطوطاً جديدة على الخريطة السورية، لا يزال القتال مستمراً وكأن شيئاً لم يكن، بما في ذلك بين الوكلاء الموالين للنظام التركي والجيش الحكومي السوري.

وفي ظل ما يتمخض عنه الموقف الراهن، كان قادة وزعماء تنظيم «داعش» الإرهابي يراقبون الأوضاع عن كثب، بعد الهزيمة الإقليمية المنكرة التي حلّت بهم قبل أشهر قليلة فقط، وأدت إلى زعزعة أركان التنظيم إلى أقصى نقطة يمكن وصفها منذ سنوات، لم يكن الفوران المفاجئ من الصراعات متعددة الأوجه على المستوى الداخلي، والعرقي، والطائفي في شمال شرقي سوريا، ليخطط له على هذا النحو البارع، من قبل مخططي «داعش» أنفسهم. إذ أتاحت الفوضى المنبثقة حديثاً مع طبيعة صعبة المراس من واجهات الصراع الجديدة فرصاً ذهبية لا تقدر بثمن بالنسبة إلى التنظيم الإرهابي، ليس فقط من ناحية البقاء، وإنما للبدء تدريجياً في إعادة بناء الذات وترتيب الصفوف لاستئناف العمليات الإرهابية في سوريا، ثم في العراق المجاور. وكان هذا ما حاول التنظيم الإرهابي فعله بالضبط على مدار الأسابيع الأخيرة؛ التسارع، وإعادة الظهور، وتعزيز نطاق العمل، والتواتر، ومجال العمليات الإرهابية.

وفي الأسابيع الأخيرة، بدا الرئيس الأميركي ترمب مقتنعاً للغاية بإدارته الواسعة وشخصيات الحزب الجمهوري لعكس توجيهاته بشأن الانسحاب من سوريا. وانعكست لامبالاة الرئيس الأميركي في سوريا إلى اهتمام متجدد من واقع الوسيلة الوحيدة التي ربما أثارت غريزة رجل الأعمال بداخله؛ وجود موارد للنفط والغاز الطبيعي في شرق سوريا. ولقد ذكر الرئيس الأميركي مراراً وتكراراً وعلى نحو علني أن الولايات المتحدة تقيم في سوريا لأجل النفط، وقال: «لدينا النفط»، تأكيداً على ذلك.

ومع ذلك، لا يعتبر النفط هو السبب الرئيسي الوحيد وراء العزم الأميركي المتجدد للاحتفاظ بوجود عسكري واضح في سوريا. بل في واقع الأمر، على الرغم من أن «قوات سوريا الديمقراطية» والعشائر الموالية لها تسيطر على نحو 75 في المائة من الموارد النفطية السورية، فإن الأضرار الفادحة قد لحقت بالبنية التحتية النفطية في البلاد إثر نقص الصيانة، وتراجعت الطاقة الإنتاجية إلى أدنى بكثير مما كانت عليه الأوضاع قبل اندلاع الحرب. والأهم من ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية هي دولة تعتمد بالأساس على الطاقة، وليست في حاجة ماسة أو عاجلة إلى النفط السوري غير المكرر، متدني الجودة. بدلاً من ذلك، فإن الهدف من الوجود الأميركي في سوريا هو الحفاظ على الحملة العسكرية المهمة ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، بينما نعمل جنباً إلى جنب مع شركائنا في «قوات سوريا الديمقراطية» بغية تعزيز الموقف الجماعي في التفاوض بشأن القضايا الأوسع نطاقاً والمتعلقة بالسياسات السورية.

وليس هذا من قبيل المصالح الأميركية المحضة، بل ينبغي أن تكون على رأس أولويات جميع حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط. ولا يزال تنظيم «داعش» الإرهابي يشكل تهديداً إرهابياً حقيقياً وأكيداً، على المستويات المحلية، والإقليمية، والدولية. وما سيستطيع التنظيم الإرهابي استئنافه في محيط بلاد الشام سيغذي ما يثبت التنظيم قدرته على تنفيذه في أرجاء العالم كافة. ولما وراء «داعش»، فإن الأزمة الراهنة الطاحنة في سوريا لا تظهر منها أي إشارات على التراجع أو الهدوء، سواء كانت الفوضى والصراعات مشتعلة في الشمال الشرقي، أو توسع نطاق التمرد والمعارضة نحو الجنوب، أو الكارثة الإنسانية المحتملة، أو التحديات الإرهابية المنتظرة في الشمال الغربي، ناهيكم أيضاً عن المواجهات الخطيرة بين إسرائيل وإيران، والتداعيات الأمنية التي تتمخض عن الدولة المدمرة والمشلولة والفاشلة، إلى جانب الاقتصاد المحلي المنعدم وجوده تقريباً. وفي غياب الوجود العسكري في سوريا، لن نتمكن من السيطرة على الأراضي، ومن دون السيطرة على الأراضي، فلن يكون لنا مقعد مفيد على أي طاولة مفاوضات تتعلق بالشأن السوري.

مع أخذ كل تلك العوامل في الاعتبار، تتبدى مصالح الولايات المتحدة واضحة من حيث استمرار البقاء في سوريا راهناً، ويبدو أن الوجود العسكري المستمر هناك قد أعيد ترتيبه وتأمينه. ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يضمن مدى التزام الرئيس ترمب بتلك المهمة، حتى بالنفط السوري. وكان التحالف المضاد لـ«داعش» قد اجتمع في واشنطن مؤخراً لبحث المستجدات والتأكيد على الالتزام بالمهمة الجارية في سوريا، لكن حالة انعدام اليقين بشأن الوجود والبقاء العسكري الأميركي هناك كانت أعمق من ذي قبل. وقال لي أحد الدبلوماسيين البارزين ممن حضروا الاجتماعات: «لا يعلم أحد ميعاد صدور التغريدة الرئاسية المقبلة»، وقال لي دبلوماسي آخر: «لم نعد نثق أو تعول على التصريحات أو الالتزامات الأميركية كما كنا في السابق». غير أن الجميع قد اتفقوا على أن مغادرة سوريا في الآونة الراهنة ستكون مجازفة بالغة الخطورة.

ولتأمين أنفسنا بصفة جماعية ضد تداعيات تحولات الموقف الأميركي غير المتوقعة والصادرة من البيت الأبيض، يتعين على حلفاء الولايات المتحدة النظر بشكل عاجل في خوض غمار بعض المخاطر. إذ لا يحتاج التحالف المضاد لـ«داعش» إلى نشر أعداد كبيرة من القوات لتحقيق الأثر الذي نصبو إليه، لكن إضافة نحو 500 جندي من أفراد القوات الخاصة من دول التحالف، إلى 400 جندي، الموجودين حالياً من بريطانيا وفرنسا، وإن كان بطريقة سرية، يمكن أن يقضي على قدر كبير من عدم اليقين الراهن بشأن استدامة المهمة العسكرية الحالية في سوريا.

تعتمد قوات التحالف بصورة كبيرة على البنية التحتية الأميركية من حيث القيادة والسيطرة والإمدادات، لكن الأساس الجوهري لتلك الآليات سيبقى سارياً وفاعلاً عبر العراق، حتى إن غادرت القوات الأميركية مواقعها في سوريا في المستقبل.

كما يمكن لحلفاء الولايات المتحدة العمل أيضاً على تعزيز نفوذ وتأثير «قوات سوريا الديمقراطية» الناجم عن السيطرة الفعلية على البنية التحتية النفطية في سوريا. ومن حيث المبدأ، ربما يكون من المفيد إعادة طرح المقترح القديم بشأن تزويد «قوات سوريا الديمقراطية» بالمصافي النفطية المتنقلة التي تسمح لها بتكرير النفط المستخرج وتجنب ضرورة بيعه إلى النظام السوري في دمشق. من شأن خطوة هكذا أن تعزز من الميزة التفاوضية لدى «قوات سوريا الديمقراطية»، وقوات التحالف كذلك في سوريا.

بقدر تفاقم الأزمة السورية على الواضع الراهن الحالي، وبقدر الإنهاك الذي ألمّ بالعالم المعاصر جراء الاضطرار للتعامل معها، لا يسعنا التغافل عن الأهمية المركزية لسوريا من حيث مقدرتها على تحديد وجه الأمن الإقليمي والدولي. وكانت هذه هي الحالة خلال السنوات الأخيرة، وستظل هكذا في المستقبل.

لا تزال لدينا تفاعلات بالغة الأهمية في سوريا، وينبغي علينا جميعاً العمل لدعمها وإسنادها، بدلاً من تركها عرضة للصدمات تلو الصدمات التي لا محيد عنها بحال.

 

نقلا عن الشرق الأوسط

التعليقات مغلقة.