تساؤلات “المنطقة الآمنة”
شورش درويش
أشعل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، النقاش مجدّداً بشأن مصير شرق الفرات في سورية، ودائماً عبر تغريداته المثيرة والمقتضبة. وفي أجواء هذا النقاش، جاءت التفسيرات المتضاربة التي بدأت تظهر في ما خص تغريدته عن “إقامة منطقة آمنة بعرض 20 ميلاً داخل سورية”، وفُهمت بدايةً تهديدا لتركيا، في حال رغبتها في القيام بعمل عسكري يهدّد حلفاء الولايات المتحدة المحلّيين، بيد أن الاتصال الهاتفي بين الرئيس التركي أردوغان ونظيره الأميركي رجّح كفّة المعنى المغاير، ليُفهم أن المنطقة الآمنة ستصبّ في صالح تركيا.
في الضفة الأخرى، رحّبت قوات سورية الديمقراطية (قسد) بمقترح المنطقة الآمنة، غير أنها ربطته بعدم التدخّل التركي، أو ربط مصير المنطقة الآمنة بوجود قوّات أمميّة، أو بقوات التحالف. ويفيد الترحيب التركي، وفي إزائه الترحيب الكردي، بأن ما طرحه الرئيس الأميركي ملتبس، وبحاجة إلى إيضاح فعلي، يجلي الضباب الذي اكتنف هذه العبارة.
لا تعاني منطقة شرق الفرات خطراً داخلياً، يتطلّب وضعها على جدول المناطق التي تستلزم عملاً إنسانياً ودولياً مباشراً، إذ لم تشهد المنطقة، طوال الأعوام السابقة، حالات صراع حادّة بين مكوّنات المنطقة، وكذلك لم تشكّل المنطقة وقوّاتها المحلّية أدنى خطر على سلامة المنطقة الحدودية الفاصلة وأمنها، فضلاً عن الداخل التركي. لذا يمكن إرجاع الاعتراض التركي المتواصل إلى أسبابٍ سياسيةٍ مرتبطة، برفض تركيا القطعي فكرة مشروع الحكم الذاتي الكردي، أي أن الاعتراض التركي، في جوهره، سياسيّ مرتبط بذهنية الدولة التركية، وطبيعتها الرافضة المشاريع القومية الكردية، سواء في داخل تركيا أو في جوارها. وعليه، قد تشكّل مسألة المنطقة الآمنة واحداً من المخارج الوسطيّة التي تبدّد مخاوف تركيا، وتطمئن سكّان
المنطقة. ولعل هذا التفسير إحدى المحاولات للإجابة عن التساؤلات العديدة التي أوجدتها تغريدة ترامب.
من جملة التساؤلات المطروحة، بإلحاح، هل سترضى تركيا الوقوف جانباً، من دون تدخل مباشر في مصير المنطقة الآمنة؟ وفي حال تدخّلها، ألا ننتقل من مفهوم المنطقة الآمنة إلى الاحتلال المباشر، والذي قد يستصحب رفضاً كردياً لمثل هذا التدخّل، وبالتالي إمكان اندلاع معارك وحروب تتسبّب في تبديد كل معنىً للمنطقة الآمنة؟
وأيضاً، هل ما تطرحه “قوّات سورية الديمقراطية” من قبولها المنطقة الآمنة، شريطة أن تتولّى أمرها قوّات أممية أو قوات تابعة للتحالف الدولي، سيلقى قبولاً تركياً، سيما وأن طرحاً كهذا سيصبّ في مصلحة الأكراد، فمن شأنه توطيد الحكم الذاتي الحالي؟
ثم هل يمكن الحديث عن منطقة آمنة، في ظل تجاهل الدور الروسي الفاعل في الأراضي السورية، والتجاوز على اعتراضات روسيا والنظام السوري المتوقّعة؟
إلى ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم المنطقة الآمنة في أدبيات القانون الدولي ينتمي إلى عالم العرف الدولي أكثر منه إلى القوانين الدولية الواضحة، على الرغم من أن الثابت في معرض تناول مفهوم المناطق الآمنة أو المناطق العازلة، المتشابهين في أحيان كثيرة، هو أن تطبيقه يستوجب قراراً أممياً صادراً عن مجلس الأمن، كما في حالات سابقة قليلة، كحالة المنطقة الآمنة (منطقة الراحة) في كردستان العراق 1991، والمناطق الآمنة في البوسنة والهرسك 1993، وسريلانكا 1993 ورواندا 1994. والمعنى أن الحديث عن منطقة آمنة يستلزم جهداً دولياً، ليس من السهل الوصول إليه، ذلك أنه يمرّ عبر بوابة التوافقات الدولية، وشبكات المصالح وتعارضها. وبالتالي، قد يستلزم تنفيذ مشروعٍ كهذا وقتا وعملا دبلوماسيا كثيرَين. ولا يُعتقد أن الدول النافذة في الملف السوري تملك ترف تبديد الوقت والجهد في سبيله.
في مطلق الأحوال، يشدّ الطرفان، التركي والكردي السوري، حبل المنطقة الآمنة، كلٌّ إلى جانبه، في سعيٍ إلى تفسير الأمر وفق ما يشتهي ويتمنّى أحدهما، غير أن هذا الالتباس الذي تسبّبت به تغريدة الرئيس الأميركي ربّما بات بحاجةٍ إلى شروح عمليّة، تكون على هيئة مشاريع واضحة، لا على هيئة تغريداتٍ جديدة، تزيد من تعقيد المشهد، وتضيف إلى الإرباك الناجم عن محاولة فهم الإستراتيجية الأميركية مزيدا من الإرباك.
نقلا عن العربي الجديد
التعليقات مغلقة.