شرق الفرات.. أفكار خارج الصندوق
شورش درويش
أفسح أفول نظام صدّام حسين المجال واسعاً أمام أكراد العراق لتشييد نموذج حكم فدرالي راسخ، بعدما كان الواقع الكردي منذ 1991 وحتى 2003 أشبه بسلطة أمرٍ واقع، لا تحظى بقبول بغداد والعواصم الإقليمية المحيطة. ساهم في تعضيد البنيان الكردي وصول حزب العدالة والتنمية ببرنامج سياسي، يزعم الانفتاح، واستبدال فكرة التنكّر للوجود الكردي في تركيا والجوار بفكرة الاعتراف بالواقع الجديد المتشكّل في أعقاب انهيار النظام العراقي. وإلى ذلك، ساهمت براغماتية حزبي العدالة والتنمية (تركيا) والحزب الديمقراطي الكردستاني (العراق) من خلال العلاقات الوشائج الاقتصادية والمشاريع العمرانية والتجارية في تطبيع العلاقة بين أربيل وأنقرة، بل غدت كردستان العراق أشبه بالحديقة الاقتصادية الخلفيّة للسياسات التركية الجديدة، المشفوعة بمنطق الحكمة البراغماتية التي أطلقها وزير خارجيتها ورجل “العدالة والتنمية” المتبصّر، أحمد داود أوغلو، “صفر مشكلات”، ساهم السعي إلى تصفير المشكلات في الداخل والجوار آنذاك بانفتاحٍ آخر، طاول حزب العمال الكردستاني، الأمر الذي دشّن مرحلةً باتت تُعرف، في حدود ضيّقة، بعملية السلام الكردية – التركية.
مناسبة الاستذكار السريع أعلاه هي غياب أبرز خاصّية، ميّزت حزب العدالة والتنمية، عن باقي الأحزاب التركية منذ تأسيس الجمهورية، وهي تقديم لغة السلام على لغة الحرب، ولغة العلاقات الاقتصادية والتنموية بدلاً عن الإيديولوجيا وافتراض الأعداء الداخليين والخارجيين، فهل يمكن أن يعاود الحزب التركي استرجاع تلك السياسة بدل السياسات الراديكالية التي حدّدت، أخيرا، شكل تعامله مع الجوار الكردي الناهض، تحديداً سياسته إزاء التطلّعات الكردية السورية؟
في الغالب، يمكن تحديد مستويين من العلاقات بين أكراد سورية وتركيا خلال سنوات الثورة السورية: اتسم الأول بشيء من المرونة التي أبدتها تركيا إزاء الصعود الكردي الذي قاده حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، ذلك أن ما اصطلح على تسميته “عملية السلام الكردية التركية” كان قد ألقى بظلاله على شكل تلك العلاقات بين أنقرة وأكراد سورية، وإن كانت علاقاتٍ اتسمت بالريبة والتشكّك، إلا أنها لم تكن عدائية وقطعية، إذ شهدت تلك المرحلة المبكّرة من عمر الثورة السورية لقاءات جمعت ممثلين عن حزب الاتحاد الديمقراطي بالحكومة التركية، ولعل زيارات رئيس الحزب آنذاك، صالح مسلم، للقاء مسؤولين أتراك تفي لشرح المعنى المراد قوله. وبمعزل عن نتائج تلك اللقاءات، فإن فكرة العداء المباشر لم تكن قد ظهرت إلى العلن.
جاء المستوى الثاني لتلك العلاقة مع تعثّر مشروع السلام الكردي التركي، وتحوّل كرد سورية إلى حائط صد عسكري ومدني، يطمح إلى التقليل من النفوذ التركي في الداخل السوري، عبر توصيل مناطق النفوذ الكردية تجاوزاً على المناطق العربية الحدودية، لتعيش تركيا لحظاتٍ باتت مصيرية، إذ بات خصمها الكردي السوري يحثّ الخطى للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وفق رؤيةٍ تحدّث عنها قادة الاتحاد الديمقراطي، ودفعت هذه الأسباب وسواها تركيا إلى تغيير قواعد اللعبة، أو ما عرف باستدارات تركيا في خطوط تحالفاتها السورية، ليفضي تحالفها مع الرّوس إلى احتلال عفرين، ودائماً عبر عملية غصن الزيتون، إلى تكبيد الأكراد خسارة جيوسياسية وعسكرية ورمزية كبيرة.
إلى ذلك، بقيت وتبقى منطقة شرق الفرات العقبة الكأداء أمام تركيا التي ما انفكّت تسير في طريق تفكيك الكيان المتشكّل جنوب حدودها، غير أن الطموح التركي اصطدم مراراً بالإستراتيجية التي تقودها الولايات المتحدة في منطقة نفوذها شرق الفرات، والتي عنونها المبعوث الأميركي الخاص في سورية، جيمس جيفري، بالتوازن في العلاقة بين تركيا وحلفائها المحليين (الأكراد). تبدو الدعوات التركية المتواصلة إلى توقّف أميركا عن دعم حزب الاتحاد الديمقراطي، والذي تصنّفه أنقرة تنظيماً “إرهابياً” محرجةً للولايات المتحدة، الأمر الذي قد يدفع الأخيرة إلى اجتراح حلول مبتكرة. ولا بأس إن كانت على شاكلة الحل في كردستان العراق، حيث ساهم الاقتصاد في دفع السياسة، وتصحيح العلاقة الكردية التركية هناك.
ثمّة مؤشراتٌ تفيد بأن الولايات المتحدة تبحث عن أفكار خارج الصندوق، للحيلولة دون صدامٍ تركي كردي آخر، قد يقوّض الجهود الأميركية المبذولة في سبيل تعزيز موقعها في سورية عبر شرق الفرات. ولأجل ذلك، تسعى الولايات المتحدة إلى إيلاء الاهتمام بالملف الاقتصادي، وإمكانية إفساح المجال أمام تركيا للعب دور اقتصادي في مجال إعادة الإعمار، وربط مناطق شرق الفرات بغربه، عبر بوابة التبادل التجاري، وربما من خلال فكّ الحصار الذي تفرضه تركيا على حدودها شرقي الفرات، والاستفادة من العوائد المالية المفروضة على التجارة بين البلدين. أو بكلمات أخرى، أن يصلح الاقتصاد ما أفسدته السياسة، وللوصول إلى إمكانية حصول تغيير كبير كهذا، قد تفرض الولايات المتحدة على حلفائها الأكراد التخفّف من الخطاب الإيديولوجي المرتبط بحزب العمال الكردستاني، وإحلال نموذج سياسي جديد، يعمل على التقليل من مخاوف أنقرة، ويحفظ للأميركان بقاءً مستداماً رفقة “قوات سورية الديمقراطية” شرق الفرات.
ليس الأمر بالهيّن سياسياً ودبلوماسياً، لعله بحاجة إلى خطواتٍ متتابعةٍ وحثيثة، تساهم في تصويب العلاقة الكردية التركية، وتدفع باتجاه إيجاد حل برأس اقتصادي، يدفع قاطرة العلاقة السياسية المتعثّرة إلى مكانٍ آخر، عنوانه المصالح أولاً، وفق أفكار مستحضرة من خارج الصندوق.
عن العربي الجديد
التعليقات مغلقة.