التسوية السورية … ومصير القوات الأجنبية بين انسحاب و تجميد
أندرو كاريبكو
تشارف حرب الإرهاب الهجينة على سورية على بلوغ «تسوية سياسية» للنزاع. وقرار التدخل الروسي لمكافحة الإرهاب في سورية كان أول خطوة من ثلاث خطوات بادر إليها بوتين هناك، وثانيها هو إعلان مسودة الدستور الذي صاغته روسيا في كانون الثاني (يناير) 2017، في أول جولة من اجتماعات آستانة فور تحرير حلب– وهذا تطور مهم، والخطوة الأخيرة كانت قمة بوتين– نتانياهو في موسكو في ذكرى النصر. وذيلت هذه الزيارة بضربتين إسرائيليتين على سورية هما الأوسع نطاقاً على الجمهورية العربية السورية منذ حرب 1973، ووجهت الضربات هذه رسالة مفادها بأن روسيا تيسر الضربات على «حزب الله» وقوات الحرس الثوري الإيراني. والموقف الروسي هذا هو حلقة من حلقات استراتيجية موازنة جيو- استراتيجية معقدة لشؤون الشرق الأوسط. وأدرك الرئيس السوري أن سياسة التلكؤ في تنفيذ مسودة الدستور التي صاغتها روسيا، ورفض البدء في انسحاب الحرس الثوري الإيراني و «حزب الله» على مراحل، ارتدت على بلاده، وجعلتها في موقع أضعف في المفاوضات، وأطلقت عنان أوسع ضربات إسرائيلية في عقود. لذا، سارع الرئيس الأسد إلى سوتشي لمقابلة الرئيس بوتين، وبحث معه في ما يمكن فعله لوقف التدهور وتفاقم الأمور في سورية. ونجم عن المفاوضات الروسية– السورية المكثفة إعلان الأسد أنه يدعم عملية مراجعة الدستور استناداً إلى مقترحات المسودة الروسية؛ والأهم هو إعلان بوتين نفسه توقعه انسحاب القوات الأجنبية المسلحة من الجمهورية العربية السورية. وأوضح مبعوثه الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف، أن القوات هذه تشمل قوات إيران و «حزب الله» على قدر ما تشمل قوات تركيا وأميركا.
ويعصى الخيال كيفية حمل أكثر من 2000 عسكري أميركي على الخروج من قواعدهم- وعددها يفوق 20 قاعدة في شمال شرقي سورية- من دون إشعال فتيل الحرب العالمية الثالثة. ويعصى كذلك تصور طرد تركيا من إدلب وعفرين من دون المخاطرة بالحرب، ولا يبدو أن أياً منهما قد ينسحب سلمياً، على رغم أن كفة هذا الاحتمال سترجح إذا عقدت أنقرة صفقة مع موسكو- وهو أمر تستبعده واشنطن. في الأحوال كلها، يمكن توسيع ما يسمى «مناطق التصعيد» لتشمل «دائرة النفوذ» الأميركية في «كردستان» السورية، والبدء هناك في إرساء «مسودة الدستور» الروسية القائمة التي تقترح «اللامركزية» والتي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى منح هذه المناطق درجة عالية من «الاستقلالية» «تُجيز» لها إبرام صفقات عسكرية أجنبية «تضفي مشروعية قانونية» على بقاء هاتين القوتين المحتلتين من أجل عدم تهديد «السلام الهش».
أما بالنسبة للحرس الثوري الإيراني و «حزب الله»، فلا يرابط أي منهما في نطاق جغرافي محدد من دون غيره، على غرار «دائرة نفوذ» كل من أميركا وتركيا. ولكنهما، على خلاف القوات الأميركية والتركية، موجودان في سورية نزولاً على دعوة من حكومتها الشرعية والمنتخبة ديموقراطياً. وهذا يعني أن السلطات السورية السيدة يسعها أن تطلب منهما المغادرة الآن بعد إنجاز شطر كبير من مهمتهما الأصلية، أي مكافحة الإرهاب، إثر هزيمة داعش والانطلاقة الجدية لعملية السلام في البلاد. ويجب توديع هذه القوات بأبهى المراسم بعد تهنئتها على المهمة التي أنجزتها على أحسن منوال.
انسحاب مرحلي
و«الانسحاب المرحلي» للحرس الثوري الإيراني و «حزب الله» في حلة محترمة، هو الاحتمال الأكبر. والمفارقة أن كلاهما سيكون سعيداً بالانسحاب- وهذا ليس من مبدأ احترام مضيفيه السوريين. فالانهاك نال من «حزب الله» في حرب متواصلة منذ سبع سنوات، وهو أدى فيها دوراً محورياً هاماً على الجبهة، في حين أن إيران تجبه تحديات أكثر أهمية من «الحفاظ على السلام» في سورية، وتحتاج إلى الانصراف إليها في الوقت الحاضر، وسط مساعي زعزعة الاستقرار التي تقودها الولايات المتحدة ضدها.
والانسحاب من سورية سيسمح لـ «حزب الله» بإعداد الجبهة الداخلية اللبنانية لصد عدوان صهيوني جديداً، بينما في وسع إيران تهدئة بعض اضطرابات المجتمع المدني المتصاعدة في مدنها والتحركات الشعبية، من طريق إعلان أنّها ستعيد توجيه الأموال التي كانت تخصصها لإرساء السلام في سورية إلى التنمية المحلية وتخفيف أثر العقوبات. أما بالنسبة لمهمتهما الأساسية في محاربة الصهيونية، فيسع كل من حزب الله والحرس الثوري الإيراني القيام بها خارج سورية، بعد إدراك أن قواتهما مكشوفة أمام النيران الإسرائيلية. ويعود هذا الانكشاف إلى الضوء الأخضر الذي أعطاه الرئيس بوتين قبل أسبوع ونصف لنتانياهو، فتحولت الجمهورية العربية السورية إلى مرمى رماية «إسرائيلي» كبير.
ولن يُسمح لـ «إيران» و «حزب الله» بمقاتلة «إسرائيل» «إلى آخر سوري»، أي سيحظر عليهما تنفيذ ما قد يعدان له نظراً لأنباء مرابطتهما العسكرية على مقربة من مرتفعات الجولان المحتلة. أمّا مصلحة البلد الحليف والمضيف فتقضي بـ «التراجع التكتيكي» الإيراني من سورية. وهذا التراجع يريح كاهل الأطراف الثلاثة، ويسمح لها بإعادة تجميع قواتها وتقييم استراتيجياتها استعداداً للقتال بفعالية أكبر في يوم آخر وفي ظروف أفضل.
وطالما أن الفرصة سانحة أمامهما للمغادرة كأبطال، حري بإيران و «حزب الله» اقتناصها، فهي تصب في مصالحهما الخاصة، على نحو ما تقدم. أمّا رفض هذه الصفقة، فيعني ببساطة توقف الرئيس بوتين عن «لجم» جماح صديقه الصدوق نتانياهو، وإطلاق العنان له، فيكون متوحشاً على قدر ما يريد لإجبار هذين البلدين على الخروج بالقوة. ولا يخفى أن «بيبي» (بنيامين نتانياهو) متعطش للدماء، وما يحول دون بل غليله هي «الوعود الطيبة» التي قطعها الرئيس بوتين في يوم النصر. ومفادها بأنه سينجح قريباً في «إقناع» الرئيس الأسد بتنظيم «انسحاب إيران المرحلي» بكرامة في المستقبل القريب، وبالتالي تجنب سيناريو التصعيد الخطير الذي تعمل موسكو لمنعه.
شدّ الحبال السياسية
وإذا سارت الأمور وفق الخطة، يمكن لإيران و «حزب الله» مغادرة سورية في الصيف، بالتزامن مع عملية «الإصلاح الدستوري» من طريق وساطة الأمم المتحدة لالتزام معظم المسودة الروسية للدستور. والبدء في التزام هذه المسودة يترتب عليه «تجميد» الوجود التركي والأميركي في البلاد، وإرساء نوع من «السلام البارد». والخطوة التالية بعد تغيير الدستور، هي تنفيذ «البنود» الأخرى في قرار 2254 ، أي تنظيم انتخابات جديدة. ويرجح أن تكون برلمانية، وليست رئاسية. فالرئيس الأسد سيبقى على الأغلب في منصبه في الفترة الانتقالية كرئيس «اسمي» في «مساومات» دستورية متفق عليها.
ويُرجح أن ينتاب القلق أولئك الذين يخشون على المستقبل السياسي للرئيس الأسد. لكن كل اللاعبين يحتاجونه للبقاء في السلطة، بغض النظر عما يقولونه في العلن. وفي غياب الأسد قد يظهر شقاق جديد في المجتمع ينفخ في النزاع المسلح. ولذا، ستوافق الولايات المتحدة وتركيا وحتى «إسرائيل» ضمناً على بقائه في منصبه وتجنب تعريض استراتيجية «التوازن» التي سعت إليها روسيا جاهدة.
أفكار ختامية
بالطبع، سورية دولة ذات سيادة وتتخذ قراراتها الخاصة في نهاية المطاف، حتى لو كانت هذه الخيارات تأثرت بالوضع الجيو- استراتيجي الذي رسمه الآخرون (روسيا تحديداً). ووقوف الرئيس الأسد إلى جانب نظيره الروسي عندما تحدث الأخير عن انسحاب جميع القوات المسلحة الأجنبية من الجمهورية العربية هو أبرز إشارة إلى أن دمشق توافق ضمناً على اقتراح موسكو، وأنها ستنفذ هذه الخطوة الحساسة وراء الكواليس مع حلفائها الإيرانيين و «حزب الله». وحين الانتهاء من «الانسحاب المرحلي» المتوقع، يتلاشى التهديد العسكري «الإسرائيلي» التقليدي المباشر لسورية، على نحو ما يقضي التفاهم «المتوازن» بين الرئيس بوتين ونتانياهو خلال قمة يوم النصر. وهذا بالتوازي مع التقدم السياسي في عملية «الإصلاح الدستوري» من طريق الأمم المتحدة وعملية السلام.
وليس في المتناول «حل مثالي» لحرب الإرهاب الهجينة على سورية ولا بلوغ أقصى المبتغى أو الأفضل من دون المغامرة باندلاع حرب أخرى. لذا، تؤدي روسيا دور الموازن بين اللاعبين وتحملهم على مساومات لا خاسر فيها وتجمد المسائل الشائكة والخلافات (الاحتلال التركي والاحتلال الأميركي). والأولوية اليوم هي للسلام ثم إعادة الإعمار، واللاعبون كلهم، بما في ذلك إيران، سيشاركون في هذا، وسيحشد العالم كله الدعم لهذا الجهد الهائل، على رغم تركيز المشاركين استثماراتهم في «مناطق نفوذ» معينة، مثل دول الخليج في «كردستان» سورية التي تحتلها أميركا، والصين في مناطق نفوذ الحكومة السورية.
والسلام في الأفق، لكنه لم يكن ليكون ممكناً لولا مساعدة الحرس الثوري الإيراني وحزب الله حلفاءهم في الحفاظ على الدولة السورية إلى حين تدخل روسيا في 2015، والقيام بمساهمتها الحاسمة في الحرب. وبعدها، بادر «السيد الأكبر في رقعة الشطرنج»، الرئيس بوتين، إلى سلسلة مذهلة من المناورات الديبلوماسية لإرساء «توازنات» تجعل روسيا الحَكَم الأسمى في شؤون الشرق الأوسط.
عن الحياة
التعليقات مغلقة.