التأييد السياسي: شرط إضافي لقبول الزواج بين كورد سوريا

124

 

شفان إبراهيم

امتازت مختلف مناطق كوردستان سوريا طيلة العقود الماضية؛ بعلاقاتها الاجتماعية المتينة، ورصانة دور الوجهاء والتجمعات الأهليّة لحل الإشكالات والقضايا الساخنة، التي كانت تحصل في المنطقة. كما عانت الحركة السياسية الكردية في سوريا طيلة نصف قرن، من الخلافات والمناكفات السياسية والانشقاقات، لكنها لم تصل إلى حد القطيعة الاجتماعيّة وبثّ خطاب الكراهية؛ لكن سنوات الأزمة والحدث السوري وهو مقبل على عامه الثامن، أظهرت وجود أزمة على مستوى العلاقات الاجتماعية، وصلة الرحم ووشائج القربة. خاصة فيما يتعلق بتوزع الأسر والعائلات والأصدقاء بين مختلف التنظيمات السياسية الكردية، والدور السلبيَّ للخطاب الإعلاميَّ الذي حضّ على الكراهية عبر بعض شاشات التلفزة وبرامجها التي كانت تصر على نعتّ الرموز بالخيانة، وإلصاق تهم العمالة بجهات مخالفة معها بالتوجهات السياسية، والسعي نحو استغلال السوشيال ميديا، لخلق جو اجتماعي جديد، قوامه القطيعة المجتمعية بسبب الخلافات السياسية؛ المعضلة الأبرز كانت عدم رغبة أو مقدرة الجهات الحاكمة على خلق أرضية تقبل الأخر المختلف معهم في الرؤى والأفكار، وعوضاً عن ذلك بدأت العمل وفق تصورات شمولية ورفع شعارات ديمقراطية دون القطع مع إرث التفرد الذي كرسته الأنظمة المتعاقبة على سدّة الحكم في سوريا، طول عقود خلت.

وكنتيجة منطقية لمخرجات التخاصم الشخصي بسبب الاختلاف السياسي الكردي، وعلى الرغم من كونه حالة نادرة لا تتكرر سوى في المجتمعات المتخلفة، فإن المجتمع الكردي يتجه صوب مزيداً من الاضطرابات السلوكية والتطبيقية نتيجة انشطاره بين مناصري الإدارة الذاتيّة والاتحاد الديمقراطي، ومناصري المجلس الوطني الكردي وشريحة المستقلين والمبتعدين عن كِلا الطرفين، والشريحة التي تسعى نحو تأمين مستلزماتها عبر الانسجام أو الرضوخ أو التماهي مع المزاج العام لأينّ مِنَّ الجانبين.

الانقسام الكردي-  الكردي ليس بجديد. ولم يهدأ المجتمع الكردي من سعير نار الخلافات والتجاذبات السياسية، لكنها لم تكنّ لتلقي بظلالها على العلاقات الاجتماعية والبنى التقليدية للأسر الكردية في المنطقة؛ لعلّ ما يعيشه المجتمع الكردي في سوريا هو أكثر المراحل حرجاً وحساسية في تاريخ علاقاته الاجتماعية الرصينة الممتدة عبر سنوات طويلة، إضافة للغموض والخطر الذي يهدد نظامه الاجتماعي ومستقبله غير المسبوق، خاصة وأن المناطق الكردية برمتها كانت حتى قبل تفشي الخلاف السياسي؛ تعيش تحت نظام عشائري يعتمد على صلة الرحم والزواج والمصاهرة بين العوائل والعشائر الكردية. لكن التطورات التي حصلت مؤخراً دفع بالتواصل المجتمعي إلى الحضيض، وتشكيل نظام اجتماعي جديد قوامه الانتماء السياسي.

الضحية الأكثر ضرراً كانت الفئات المستقلة وغير المنتمية إلى أيَّ تيار سياسي غير ملزم بتطبيق نتائج أو مخرجات الفرمانات القرقوشية أو التعميمات الحزبية؛ ما ترتب عليه من قطع صلة الرحم ضمن العائلة الواحدة والتنازع الذي يشهده مناصري كلا التيارين السياسيين الكرديين، هذا الانقسام ترك أثارا عنيفة على العلاقات الأسرية في كل بيت، وإن كانت قد أحدثت مشاكل وخلافات زوجية لم تكن موجودة من قبل، وأصبح تأييد فصيل بعينه أمراً مصيريا في حياة الأسرة، يترتب عليه مستقبلها وأصبحت النقاشات تثير جواً من التوتر بين الزوجين؛ لينتج عنه في المحصلة، خصام أو عنف لفظي أو جسدي. فإن المحصلة هي ترسيخ للتعصب وخلق تشنجات ضخمة في أي علاقة وترسيخ التعصب وتأثيره حتى على أي علاقة تزاوج جديدة إن كان طرفيّ العلاقة العاطفية ينتميان إلى تيارين مختلفين.

تطور الأمر إلى امتناع قسم الأسر المنتمية إلى التيار “الآبوجي” عن تزويج بناتهم إلى المنتمين لتيار “البرزاني”، أو العكس. وباتت موضة مستفحلة في المجمع الكردي، ويُقدمّ آخرون فاتورة السعير الملتهب بين الطرفين؛ فمنذ أيام تسببت أحد الأسر، في إفشال علاقة حبّ بين طرفين؛ ينتمي  الشاب إلى التيار البرزاني، ولا تحمل الفتاة أيَّ انتماءات حزبية أو توجهات إيديولوجيا، لكنها تربت في عائلة تنتمي إلى التيار “الآبوجي”  منذ بداية  ثمانينيات القرن الماضي، بمبررات عدم تطابق أخلاق الطرفين السياسيين مع بعضهما البعض؛ سرديات إحدى أضلاع العائلة عن دورها البطولي منذ نصف قرن في خدمة أفكارها السياسيّة افقدها التوازن مع البيئة المجتمعية التي تنتمي إليها وتعيش في وسطه؛ فالحيّ الصغير الذي تقطنه الأسرة أستشهد المئات من شبابه في مختلف المعارك التي خاضتها قوات الحمايّة الشعبية، إضافة إلى كونه الحي الأكثر تضرراً بالهجرة الحاصلة في المنطقة، الإضافة الثالثة كونه حيّ خليط يجمع أنصار جُلّ الأحزاب الكردية؛ اللوحة المختلطة هذه خلق لدى صاحبة القرار في ظل رحيل الأب منذ زهاء عشرون عاماً، لحمل لواء القرار وتسيد المشهد الأسري. 

الحال وهذه. فأنَّ الاضطراب لا يقتصر على طرفي معادلة الزواج فحسب، إنما تتعدى للوصول إلى المجتمع الأوسع فالأوسع وهكذا، ما يتسبب بأزمة اجتماعيّة أو ظروف معينة في قلب التوازن المجتمعيّ، خاصة وأنَّ الانتماء السياسي أصبح يُضاهي السلوك كمحدد معياري لشخصية الفرد وسُمعته، وهو ما يساهم في زيادة الفجوات بين الأسر والعوائل على أوسع نطاق وليس الطرفين المعنيين فحسب. 

الذهنيات الجديدة لدى الأسر تحملنا إلى التقرب من أسباب الانتكاسات في العلاقات الأسرية حديثاً، وما قد تتسبب به من تهيئة الأرضية لافتعال أزمات أكثرة حدّةً وإشكاليات أكبر من مجرد منع الابنة بالتواصل مع خيارها في الحياة؛ مجمل هذه المشاكل تكون الأطراف الأقل تقرباً أو لنقل الأكثر بعداً عن الواقعة وأطرافها، هم الأكثر تضرراً، فهم لا يمتون للموضوع بصلة، وكونهم جزء من مجتمع تفسخ حتى في علاقات الحبّ والزواج، فأنَّهم سيدفعون ثمن ضرورة اتخاذ موقف إلى جانب احد الطرفين، أو البقاء على الحياد والبحث عن آليات طرديّة جديدة لمختلف الأطراف.

إن غياب العوامل والظروف والشروط التي تحقق السعادة والرضا والطمأنينة للإنسان، يُسميها عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم بالاضطراب الاجتماعي؛ فالسعادة والرضى والشعور بالاستحسان يصيب المرء حين يكون السلوك الإنساني متماشياً ومنسجماً مع المعايير السائدة في المجتمع، خصوصاً عندما تكون تلك المعايير مدماكاً للنظام المتكامل الخالي من الصراعات والتناقضات. لكن تناقض المعايير الاجتماعية واضطرابها يؤثر على سلوك الأفراد تأثيراً سلبياً، ومن ثم، يؤدي إلى ظهور ما يُسمى بظاهرة الاضطراب الاجتماعي، أو التفسخ الاجتماعي. وهو ما تعانيه الأسر الكردية في اتخاذ قرارها بشأن الموافقة أو عدمها على زواج أبنائهم من أشخاص ينتمون إلى الضفة الأخرى من المعادلة السياسية الكردية في سوريا. 

استمرار انعكاس الخلافات السياسية على البنية المجتمعية يؤدي إلى شمول الجميع بتلك الخلافات سواء المنتمين إلى الأحزاب الكردية المتصارعة، أو الفئات المستقلة. فيكون الانكفاء والعزلة وزيادة الخصوصيات الشعار الأبرز ضمن البيت والحيّ والمنطقة والعشيرة الواحدة.

لن يتمكن المجتمع الكردي من الصمود أمام ضربات التقسيم والتشتت الداخلي بسبب الانقسامات الايدولوجيا والنفعية، خاصة وأن الغالبية المطلقة لم تعد توليَّ أي أهمية للمناكفات الحزبيّة، لكن خطر شمولهم بتلك الاضطرابات والتفسخ الاجتماعي يعدّ أمر في بالغ السوء. على أقل تقدير لن يكون بمقدورهم إشباع رغباتهم وميولهم ونزواتهم الطبيعية بالطريقة التي اعتادوا عليها. حيث أشار “روبرت ميرتون” في مقالته عن البنية الاجتماعية والتفسخ الاجتماعي التي كتبها عام 1938، إلى ردود فعل الفرد مع الثقافة الغريبة التي يفرزها المجتمع في الأزمات وسيطرة القوة المُعززة لثقافة الخلاف. حيث أن المداخيل الاجتماعية الجديدة في أي مجتمع يُعرضها للانفلات الخُلقي والثقافي والفكري، وتجد القوة الداعمة والمؤثرة في ذلك.تلك القوة الفاعلة تضع الحد والحواجز ضمن نطاق سيطرتها، ما ينعكس على جميع القاطنين في تلك المناطق، وتكون الأهداف والنتائج المستهدفة هي منع تحقيق رغباتها والحدّ من إشباع الغرائز والميول الطبيعية. أو على اقل تقدير جعلها صعبة التحقيق والمنال. ولو بدرجات غير متوازنة أو غير متكافئة لدى جميع الأفراد والجماعات.

نشر هذا المقال في العدد /78/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/5/2018

 

التعليقات مغلقة.