الإرهاب ليس مشكلة ثقافية

32
349
عمل كاريكاتيري لـ ج.سي.كاوغفيلد

تُطرح تفسيرات ثقافية ودينية في محاولة فهم ظاهرة الإرهاب، وهي تفسيرات متهافتة، تُغفل أن مَبْعَث ظاهرة العنف سياسي، كما أن أهدافها سياسية.

مع ظهور داعش في الساحة العربية، وتمددها، نشهد عودةً إلى أجواء ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، من حيث كثرة التحليلات التي تحاول تفسير هذه الظاهرة، والعودة إلى الحديث عن الإرهاب، وأسبابه ودوافعه، وكيفية مواجهته. النقاش حول الإرهاب يركز على أسبابه، من دون الكثير من التدقيق الضروري في المصطلح ذاته، إذ إن مصطلح “الإرهاب” مطَّاط وغامض، وليس له معنى محدد وواضح، وإذا كان النقاش في تحديده يدور، غالباً، حول استهداف المدنيين بالعنف، لتحقيق غايات سياسية، فإن هذا لا ينطبق فقط على الجماعات من خارج الدولة، التي تمارس العنف، بل، أيضاً، على عنف الدولة، المسكوت عنه في محاولات تحديد المصطلح هذه.

يؤكد فيلسوف التفكيك الشهير، جاك دريدا، أن الدول ذات السيادة فرضت دائماً الإرهاب على شعوبها، أو الشعوب الأخرى، في أوقات السلم، كما في أوقات الحرب، وهو، لذلك، يعتقد أن من غير الممكن التمييز بين إرهاب الدولة وإرهاب “اللادولة”. الاستخدام الشائع لمصطلح إرهاب يعود إلى ما بعد قيام الثورة الفرنسية، وتحديداً إلى ما سُمِّي (عهد الإرهاب) في فترة حكم روبسبيير، إذ مارس الأخير عمليات قتل جماعية، بهدف تخليص فرنسا من جميع أعدائها الداخليين، وهو مارس هذا الإرهاب باسم الدولة ذات السيادة.

إن هذا يجعل المصطلح ممكن التطبيق على حالات عنف الدولة، ويؤكد أن المصطلح يُستخدم، غالباً، في خدمة أجندة السلطة، ويُوظَّف في خدمة سياساتها، ويتضح هذا، بشكل كبير، في حالة الولايات المتحدة التي أسبغت على الجهاديين تسمية “مقاتلي الحرية”، حين كانوا يتماشون مع أجندتها، ثم صنفتهم إرهابيين بعد اصطدامهم معها.

تحليلاتٌ كثيرة لظاهرة “الإرهاب” تتجاوز كونه عنفاً سياسياً، وتحيله إلى أسباب ثقافية ودينية. كتَّاب سعوديون، مثلاً، يحيلون الظاهرة إلى مشكلة خاصة في الثقافة العربية الإسلامية، على طريقة المستشرقين، على الرغم من أن العنف المفرط المُمارس داخل الغرب نفسه تاريخياً، أو من الجيوش الغربية على الشعوب الأخرى، ومظاهر العنف الكبرى من إبادة السكان الأصليين في أميركا الشمالية مروراً بالهولوكوست وممارسات الاستعمار الغربي، وصولاً إلى القتل الجماعي بالدرونز، لا يُفسَّر بإشكالية ثقافية غربية. كذلك، فإن تفسير تنادي مسلمين من كل بقاع العالم للانضمام إلى داعش، وغيرها، بإشكالية ثقافية، لا يقابله تفسير سفر يهود أميركيين وكنديين إلى فلسطين المحتلة، للقتال مع الجيش الإسرائيلي، بخلل ثقافي.

يسهب كتَّاب وإعلاميون سعوديون في الحديث عن المناهج الدينية في التعليم العام، وضرورة معالجة الخطاب الديني، ويعتبرون أن الإسلاميين مسؤولون عن إنتاج العنف، بغض النظر عن الاختلافات المتعددة بينهم، وهذا الاختزال هدفه في أحيان كثيرة، دفع السلطة إلى مواجهة الإسلاميين، وتحقيق مطالب ليبرالية باستخدام موضوع مكافحة الإرهاب، وضرب منابعه. ويعتبر هذا الطرح أن النص الديني والتراثي بَعَث الإرهاب، متغاضياً عن الظروف السياسية التي ينشأ فيها عنف سياسي، فنشوء هذه الجماعات ليس سببه وجود نص تراثي، يعزز اتجاه التكفير، بل وجود ظروف سياسية واقتصادية، تجعل من توظيف هذا النص، ومن التحشيد والتعبئة عبره، أمراً ممكناً، كما أن التبرير الديني لممارسة العنف حاضر عند مسيحي، مثل جورج بوش، وعند اليهود الصهاينة. لذلك، يبدو تفسير العنف السياسي بوجود بواعث دينية وثقافية متهافتاً.

داعش وغيرها نتاج عوامل متعددة، أهمها تآكل شرعية الدولة العربية، وعدم قدرتها على القيام بمسؤولياتها تجاه مواطنيها، أو ممارستها العنف تجاه فريق منهم، وهو ما ينتج قيام جماعات تمارس العنف رد فعل. فشل الدولة العربية في مواجهة الهيمنة الخارجية والاحتلال الإسرائيلي، وفشلها، أيضاً، في بناء مؤسسات تستوعب المواطنين، وتمثل مصالحهم، وإيجاد هوية وطنية تجمعهم، وممارستها الاستبداد والفساد، والعنف بدرجاته المختلفة تجاه المواطنين، أنتج داعش وغيرها من جماعات العنف. انفجار هذه الدولة ساهم في نشوء جماعاتٍ خارج الدولة، تستمد شرعيتها من توفير الأمن لفئة معينة، والدفاع عن مصالحها ضد الجماعات الأخرى، وضد الدولة وعنفها، أو تعويض تقصير الدولة في مواجهة الهيمنة الغربية والاحتلال الصهيوني، كما في حالة حركات المقاومة.

تنظيم أممي، مثل داعش، لا يعبر فقط عن تآكل شرعية الدولة العربية، بل، أيضاً، عن ردة فعل أممية تجاه العولمة غير العادلة، والتي تعبر عن القهر الغربي لبقية العالم، وكما يؤكد الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، فإن الرأسمالية المنفلتة، والتراتبية الصارمة في النظام الدولي، وتقسيم العالم من دون رحمة إلى رابحين وخاسرين أنتج ردة فعل روحية، تعبر عن غضبها تجاه هذا الواقع لذلك، هو يحيل ظاهرة العنف هذه إلى أسباب سياسيةٍ واقتصادية، ويرفض التفسير الثقافي الذي يقول به أشخاص، مثل صمويل هنتغتون.

لا يمكن تجاهل الذخيرة الأيديولوجية لتنظيم مثل داعش، وهي أيديولوجيا وهابية كما هو واضح، تفسر سلوكيات وممارسات كثيرة للتنظيم، لكنها لا تفسر أسباب انبعاث هذا التنظيم، وكامل أهداف ممارسته العنف التي نحتاج فيها لتفسير سياسي واقتصادي، يتم تغييبه عمداً في بعض الأحيان.

الدوران حول أسباب ثقافية ودينية، مع تجاهل العوامل السياسية، يعني استمرار المشكلة. بناء شرعية متينة للدولة العربية، بتمثيلها مصالح مواطنيها داخلياً وخارجياً، هو السبيل لتقليص تمدد جماعات عنفٍ مثل داعش.

بدر الإبراهيم / عن العربي الجديد

 

التعليقات مغلقة.