سيرة ذاتية لجبهة النصرة لأهل الشام / سلامة كيلة

40

349

 

 

 

 

 

 

صدر أول بيان باسم جبهة النصرة في سورية إثر تفجير مقر أمن الدولة في كفرسوسة، وفرع المنطقة للأمن العسكري في الجمارك، يوم 23\12\2011، ووضع البيان على موقع إلكتروني أنشئ قبل يوم، ثم اختفى. فكان يفترض أن تأسيس الجبهة كان قبل ذلك. ثم أعلنت عن تفجير انتحاري في حي الميدان في 6\1\2012، وآخر ضد المخابرات الجوية في ساحة التحرير يوم 17\3\2012، وفي حي السليمانية في حلب في 18\3\2012.
البيان التأسيسي الأول لجبهة النصرة مؤرخ في 24\1\2012، ونشر في 25\5\2012. لكن، حين سئل أبو محمد الجولاني عن تأسيس الجبهة في المقابلة التي أجراها تيسير علوني معه لقناة الجزيرة، قال إنها تأسست في فبراير/شباط سنة 2012. … متى تأسست إذن؟

تسرّبت في إبريل/نيسان سنة 2012 معلومتان، الأولى أن النظام السوري أطلق سراح أبي مصعب السوري، القيادي في تنظيم القاعدة، و500 كادر وعضو في التنظيم، تشكلت منهم النوَيات الأولى لجبهة النصرة. والثاني، وفق معلومة تسربت من مطار دمشق، أن الأمين العام لمجلس الأمن الوطني السعودي، الأمير بندر بن سلطان، حط في المطار، والتقى رئيس مكتب الأمن القومي السوري، علي مملوك. وعُرف، فيما بعد، أن السعودية تضغط على كل من الأردن وتركيا لإدخال “جهاديين” إلى سورية، لم يوافق الأردن، فأوقفت السعودية دفع مبلغ ملياري دولار، كانت قد وعدت بتسليمها في يونيو/حزيران سنة 2012، ووافق رئيس وزراء تركيا في حينه، رجب طيب أردوغان، بعد تمنّع، ثم أخذت تركيا تشارك في صنع مجموعات أصولية، وتسهّل دخول “الجهاديين”.

يشير هذا الأمر إلى أن نشر بيان التأسيس هو تاريخ نشوء الجبهة، على الرغم من أنه حمل توقيعاً بتاريخ أسبق. وما يؤكد ذلك أنه كان يجب أن تجري تغطية البيانات السابقة التي أعلنت عن عمليات تفجير، منذ نهاية سنة 2011 في تفجير كفرسوسة. لكن، واضحٌ أن الزمن بين كتابة البيان ومحاولة التغطية كان قد فرض نسيان ما قبل بداية عام 2012. حيث كان واضحاً أن عمليتي كفرسوسة والجمارك جرتا نتيجة “صراع داخلي” بين الأجهزة الأمنية السورية، حيث جرى بعدها نقل المركز المهيمن من أمن الدولة إلى المخابرات الجوية التي باتت تمسك بمفاصل الأمن، وتفرض سطوتها على كل الفروع الأمنية. وأيضاً، كانت مؤشرات وتسريبات تفيد بأن التفجير مفتعل، مثل تفجيرات أخرى، كانت تريد تخويف الأقليات (تفجير ساحة التحرير، وحي السليمانية في حلب، وتفجير السلمية)، أو تخريب مراكز النشاط الثوري ضد النظام، كما في حي الميدان، ومناطق أخرى. وتفجيراتٌ كثيرة كانت تكشفها ملاحظات الناس في المنطقة نفسها، حيث كانت تلاحظ نشاط الأمن قبل التفجير، وبعض الحركات التي تؤشر إلى أن حدثاً ما سيقع.

لهذا، يمكن القول إن جبهة النصرة تشكلت فعلياً في 25\5\2012 وليس قبل ذلك، بعد أن جرى الإفراج عن قيادات وكوادر كانت في سجن صيدنايا، ونقلت إلى سجن عدرا بعد الثورة. وكان قد أفرج عن “جهاديين” آخرين قبل ذلك، شكّل بعضهم “أحرار الشام”، وهم، أيضاً، ممن قاتلوا في العراق، وكان الحوار يجري بينهم وبين تنظيم القاعدة ليكونوا هم فرعها في سورية، لكن خلافات “فقهية” تتعلق بالتعامل مع السوريين عموماً، ومع الأقليات خصوصاً، منعت ذلك. وشكّل آخرون “صقور الشام”، في سياق متقارب مع الأحرار. وكذلك شكّل زهران علوش، الذي أُطلق سراحه كذلك، لواء الإسلام، ثم جيش الإسلام، ثم انخرط في الجبهة الإسلامية. وحين سئل في ما إذا كان النظام يعرف، حين أطلق سراحه، أنه سوف يحمل السلاح ضده، أجاب بأن النظام كان يعرف، وعلى الرغم من ذلك أطلق سراحه (تصريح لقناة سورية الشعب). وزهران علوش في ترابط وثيق مع السعودية، وسياسته تنبني على ما تريد هي بالتحديد، وكان واضحاً أن كل تكتيكه العسكري خضع لما تريد هي، وليس ما يخدم تقدم الثورة وانتصارها.

الغريب أن يقبل هؤلاء الخارجون من السجن التسمية التي اختارها النظام، وأن يعملوا وفقها، أي جبهة النصرة لأهل الشام. والتي كان النظام قد أصدر بيانات باسمها قبل تشكّل الجبهة فعلياً، وبعد تشكّلها، (مثلاً تفجير منطقة المزرعة وسط دمشق، وتفجير مركز شرطة برزة). إذ كانت تُنشر البيانات على صفحات تجري إنشاؤها قبل يوم من الإعلان عن التفجير، ثم تختفي الصفحة بعد ذلك. أي لم تكن توضع على موقع “رسمي” للجبهة. وهذا وحده كافٍ للقول إنها لم تكن موجودة خلال تلك الفترة كلها.

من خلال شهادات سجناء مع هؤلاء، كان يشار إلى وجود منطق تعصبي ضيق، وحرْفية في تناول النص القرآني، وضمن حدود لفظية، وتركز على “الأخلاق”. وهم يمارسون ذلك معتقدين أن الله كلفهم بتنفيذ أوامره، كما فهموها، من خلال قراءة مجزوءة، وسطحية وموجهة، للقرآن، ووفق تفسير شيخ ما، نقلاً عن ابن تيمية وابن قيّم الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب. لهذا، لا يتورعون عن القتل “تنفيذاً لإرادة الله”، وتصفية كل من يخالفهم في فهم الدين، أو في عدم الالتزام بما يعتقدون به هم. ومبدأهم أن المجتمع، عموماً، مرتد، ويجب استتابته، وبالتالي، إما الإسلام كما يرونه أو القتل.

المسألة الأخرى الملاحظة، هي وجود “رجال أمن” بينهم، أي أنهم مخترَقون من الأجهزة الأمنية السورية، حيث تنظم الأجهزة أفراداً معتقلين في قضايا جنائية، وتدفع بهم إلى الانضمام إلى هؤلاء، أو حتى تدفع برجال أمن غير معروفين لاختراقهم. وأشير إلى أن أكثر من شخص من هؤلاء كان يتعاون مع الأمن، مثل (نديم بالوش، وهو الآن مع داعش، وكان قد أعلن أن لديه صواريخ كيماوية سيطلقها على المناطق العلوية، واستُخدم تصريحه تأكيداً على أن الثورة تمتلك أسلحة كيماوية، ونسجت روايات حول ذلك). وأسلوب اختراق “الجهاديين” قديم لدى المخابرات السورية، إذ حظس النظام السوري وحده بالشكر من الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، عام 2004، على المعلومات الهائلة التي قدمها للولايات المتحدة (كانت هناك لجنة أمنية مشتركة يترأسها من الجانب السوري، مسؤول الأمن العسكري حينها، آصف شوكت). ولهذا، كانت سورية واحدة من أربع دول كانت أميركا ترسل إليها “الجهاديين” للتحقيق معهم (منهم أبو مصعب السوري). كما ظهر دور الأمن في تحشيد “الجهاديين” وإرسالهم إلى العراق بعد احتلاله من الجيش الأميركي، حيث كانت تبلّغ عن الذاهبين، أو كانت تبلغهم أن لا عودة لهم، لأنهم إذا ما عادوا سيقتلون، وكان اعتقال آلافٍ، بعضهم من هؤلاء العائدين. لكنها استخدمتهم ضد الاحتلال الأميركي بعد مقتل رفيق الحريري واتهام النظام بذلك، حيث أخذ يضغط على الإدارة الأميركية عبر “المفخخات” و”الجهاديين”، ما أثار حفيظة نوري المالكي الذي طلب من مجلس الأمن أن يبحث في الأمر لمعاقبة سورية سنة 2009.

ويوضح هذا الأمر أن هناك سيطرة على “الجهاديين” من قبل الأجهزة الأمنية السورية، وبالتالي، أن إطلاقهم بعد الثورة بأشهر (الجزء الأهم بعد عام من الثورة، ومع سياسة جديدة اتبعتها السلطة)، كان متحكماً به، ويخدم سياسة معينة. لذا بعد عام من الثورة، جرى ذلك، حيث كانت السلطة قد قررت سحب قواتها من الشمال السوري، نتيجة توسع الثورة (قبل تصاعد العمل المسلح الذي كان لازال محدوداً). لكن، بالأساس، نتيجة أن هذا التوسع فرض احتقاناً داخل الجيش (معظمه من الشعب، ومناطقه كانت تقصف وتتعرض لانتهاكات) كان يجعل توسّع الانشقاق أمراً محتماً، فينتقل من انشقاق أفراد إلى انشقاق وحدات (كما في منطقة درعا حينها)، والأخطر تحرك الجيش ضد السلطة. لهذا، فرض على الجيش الحجر في المعسكرات بلا إجازات، وحظر الاتصلات على الجنود. وبما أن “البنية الصلبة”، (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري) والشبيحة، باتت في حالة ارتباك، ولا تستطيع السيطرة على كل الأرض السورية، أُعيد تمركز الجيش في مراكز أساسية، واضطرت السلطة لسحبه من الشمال، ثم الشرق. وهذا ما كان يترك فراغاً فيهما.

هنا، جاء دور “نظرية الفراغ” التي كررها إعلام السلطة كثيراً قبل ذلك. فقد كان يؤكد أن تنظيم القاعدة يوجد في المناطق التي يحدث فيها فراغ سلطوي. إذن، لماذا أفرج عن هؤلاء “الجهاديين”، ولمَ انسحب الجيش من تلك المناطق تاركاً فراغاً يمكن أن يستغله تنظيم القاعدة؟ اللافت أن الخطوتان تحققتا في الوقت نفسه تقريباً (وبعد الأخبار عن لقاء بندر وعلي مملوك مباشرة)، أي بعد انقضاء عام على انظلاق الثورة. وأظن أن جوهر تشكيل جبهة النصرة يكمن في الإجابة على ذلك. فقد أصبحت العين التي يطل النظام منها على هذه المنطقة التي باتت “خارج سيطرته”، وهذه مسألة أساسية، حققت له الوصول إلى كوادر وقيادات ثورية وقتلها. كما حققت له افتعال صراع بين هؤلاء “الجهاديين” والمناطق التي يوجدون فيها، حيث لم يكن الصراع مع السلطة أولويتهم، لأن هذا أمر سياسي، يقع خارج مداركهم أصلاً، بل أولويتهم هي فرض “الخلافة”، وحرب المرتدين (حيث لازالوا يعيشون عصر أبي بكر الصديق)، وهذا يجعلهم في صراع مع الشعب، وأيضاً، مع قوى الثورة، لأن هذه الأرض باتت تحت سلطتهم هم، أو أنهم يسعون إلى توسيع سلطتهم على حساب القوى المسلحة الأخرى. هذا ما حصل، فبات صراع الثورة معهم ومع السلطة معاً. وباتوا الوجه السيئ للثورة (حيث حسبوا عليها) والبعبع المنفّر من الثورة. خرّبوا فعلياً وخدموا السلطة أمنياً، وكانوا مادة إعلامية تظهر “بشاعة الثورة”. من هذا المنظور، كسبت السلطة السورية مسألتين، الأولى اختراق المناطق التي انسحبت منها، والثانية الاستفادة من عقيدة هؤلاء “الجهاديين” بجعلهم قوة ضد الشعب، وتوجيه ذلك، انطلاقاً من حالة الاختراق الموجودة.

لماذا اختلفت جبهة النصرة مع “دولة العراق الإسلامية” التي باتت “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)؟

من شكّل جبهة النصرة كان جزءاً من تنظيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” بقيادة أبي مصعب الزرقاوي، حيث اعتقل معظم السوريين ومن جنسيات أخرى سنوات 2005 و2006، وبعد ذلك. ربما صار بعضهم جزءاً من تنظيم “دولة العراق الإسلامية”، تحت قيادة أبي عمر البغدادي. لكن، ربما لم يكن أيّ منهم تحت قيادة أبي بكر البغدادي. على الرغم من ذلك، تبيّن أن أبا بكر البغدادي تقاسم المال والسلاح مع  زعيم جبهة النصرة، أبي محمد الجولاني، على أساس أن يكون تحت إمرته كما جرى الإعلان عنه بعد الخلاف بينهما. لكن، تشكلت جبهة النصرة، وبعد مدة، أعلن أبو بكر البغدادي تشكيل داعش من الطرفين، ما رفضه الجولاني، ودخلا في سجال، وعادا إلى “المرجعية” (أيمن الظواهري) الذي حسم بالفصل بينهما، وأدى الأمر إلى تمرّد البغدادي، وبالتالي، الصدام بين النصرة وداعش.

هل هو صدام “عقائدي”؟ لم يبد كذلك، فما هو إذن؟ خصوصاً أن داعش باتت تظهر بديلاً عن تنظيم القاعدة الأم. يمكن القول باختصار إنه ربما كان للاختراقات الأمنية المتعددة (من أميركا إلى السعودية وإيران والنظام وغيرها) دور في ذلك. لكن، يبدو واضحاً على الأرض التداخل بينها، والانتقال المستمر من هنا إلى هناك، في سياق سياسة واحدة.

عن العربي الجديد

 

التعليقات مغلقة.