أسباب ومآلات الحرب التركية على عفرين    

96

يبدو أن أردوغان قد استنفذ كل الوسائل والسبل المتاحة أمامه في محاولاته الحثيثة للحد من تمدد المشروع الديمقراطي الذي تبناه الكرد في روجآفا وشمال سوريا، حتى لجأ إلى استخدام القوة المفرطة وكل ما يمتلك من أسلحة وعتاد في حرب أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها حرب ضد الإنسانية جمعاء بهدف كسر الإرادة الحديدية لوحدات حماية الشعب الكردية وقوات سوريا الديمقراطية ومن ورائها الإرادة والإدارة السياسية التي تمثلها الإدارة الذاتية الديمقراطية والفدرالية الديمقراطية لروجآفا-شمال سوريا وكذلك المجتمع الذي تم تنظيمه على مبدأ الأمة الديمقراطية وأخوة الشعوب.

لم يفهم أردوغان حقيقة الحقبة المقبلة أو أنّه تَحدى التغيرات المتسارعة في الشرق الأوسط وحاول الوقوف في وجهها وتعامل مع واقع روجآفا من منطلق قومي وفكري ضيق جداً حتى وصل إلى نقطة اللاعودة بمهاجمته لعفرين الآمنة من دون وجود أي مبرر حقيقي قد يساهم في تأمين الغطاء الدولي لحربه اللاإنسانية هذه سوى التقاطع فيما بين مصالحه الشخصية والحزبية ومصالح الدول الكبرى التي لن تستطيع أنظمتها الحاكمة إلتزام الصمت حيال هذه الجريمة طويلا في ظل تعاظم التعاطف الشعبي العالمي مع مقاومة عفرين التي يرون فيها امتدادا لمقاومة كوباني بالدرجة الاولى والسبيل الأوحد للحفاظ على القيم والمبادئ الانسانية في القرن الواحد والعشرين.

صحيح أن روجآفا وعفرين تمثل بوابة كردستان نحو العالم وتعتبر الضامن الأول لأي مشروع سياسي ديمقراطي يتبناه الكرد لنيل حقوقهم نظرا لأهميتها الجيوبوليتيكة، إلا إن مبادئ ثورة روجآفا التي تبناها الشعب الكردي كأخوة الشعوب وحرية المرأة طريقا للوصول إلى حقوقه المشروعة تعتبر هي الضامن الأكبر لهذا المشروع وهذا ما لم يكتشفه أردوغان على ما يبدو حتى اللحظة.

قرب عفرين في روجآفا من البحر الأبيض وبقاؤها تحت سيطرة وحدات حماية الشعب، وحدات حماية المرأة وقوات سوريا الديمقراطية يجعلها شريان الحياة وطوق النجاة لأي مشروع كردستاني ديمقراطي يتبناه الكرد مع الشعوب المتآلفة معه قد يرى النور مستقبلا سيؤدي بالضرورة إلى حدوث تغير في موازين القوى في الشرق الأوسط لمصلحة المشروع الديمقراطي الجديد بدلا من النظام الديكتاتوري الموجود في أنقرة حاليا بزعامة أردوغان، وستصبح روجآفا بذلك في ظل اعتراف العالم بالكيان السياسي الجديد – فدرالية روجآفا- شمال سوريا – في إطار سوريا فدرالية ديمقراطية بوابة آسيا الجديدة نحو أوربا ما سيفقد تركيا بالضرورة دورها الأهم في المنطقة وفرصها المستمرة في ابتزاز كل من أوربا وأمريكا.

مع ترسيخ أسس ودعائم مجتمع جديد مغاير لِما هو متعارف عليه في الشرق الأوسط مؤمن بعدم وجود الفوارق بين الرجل والمرأة من ناحية الحقوق والواجبات، يسعى لتحقيق المساواة بين الأديان والطوائف والقوميات في ظل ولادة خط اقتصادي جديد – طريق روجآفا على غرار طريق الحرير- ستحدث تغيرات جذرية في بنية وفكر شرقنا المليء بالصراعات المُصطَنعة على أساس تلك الاختلافات ما سينقله بالضرورة من مرحلة الصراعات الطائفية والقومية إلى مرحلة التحالفات الشعبية والقومية.

شن أردوغان حربه على أمل احتلال عفرين والحد من كل هذه التطورات والتغيرات إلا إنه سها عما هو أهم؛ ألا وهو أن الكرد قد خلقوا لأنفسهم بوابة أخرى وسبلا جديدة لنيل حقوقهم المشروعة وتحقيق الحياة الحرة الكريمة التي يسعون إليها متجاوزين البعد الجغرافي المفروض عليهم.

عفرين صامدة وستنتصر بكل تأكيد لأنها مفتاح حل قضايا الشرق الأوسط وعلى رأسها القضية الكردية لكن المشروع الديمقراطي القائم على مبدأ أخوة الشعوب والمشروع الفدرالي القائم على مبدأ الأمة الديمقراطية هو العامل الأهم في معادلة الشرق الأوسط الجديد، وإذا ما كتب لهذا المشروع النجاح وتحولت سوريا إلى دولة فدرالية ديمقراطية مؤمنة بمبادئ الأمة الديمقراطية التي يحمل الكرد لواءها الآن ستتحوّل كامل الجغرافيا السورية عندئذ إلى طوق النجاة المنشود للشعب الكردي وكل الشعوب المضطهدة التي وجدت في هذا المبدأ حلا أمثلا لتحقيق حقوقها وأمنها وسلامها المنشود.

صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا تحاولان كل واحدة منهما تثبيت أقدامها أكثر فأكثر في الشرق الأوسط بهدف الحفاظ على مصالحهما فما كان من الأخيرة إلا وأن دعمت نظام الأسد وحاربت إلى جانبه فيما كانت أمريكا قد طرحت مسبقا مشروعا لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، وقد تبدو التغيرات المتسارعة في الشرق الأوسط للوهلة الأولى منسجمة مع مشاريعهما لإعادة توزيع المنطقة حسب الإختلافات العرقية والقومية والطوائف الدينية إلا أن النظام الجديد المولود في روجآفا وشمال سوريا يتجاوز إلى حد كبير هذه الاعتبارات ويتخذ مبدأ الفكر الحر وعقيدة المصير المشترك كحلٍّ للقضايا العالقة بين الشعوب بحيث تكون الديمقراطية والعدالة هي الحكم الأول والأخير، وتعتبر مصلحة شعوبها فوق كل الاعتبارات، وتتعامل مع هاتين الدولتين آنفتي الذكر على هذا الأساس وفي هذا الإطار.

عفرين انتصرت حتى قبل أن يشن أردوغان حربه هذه، وهذا ما لم يدركه الطاغية حتى اللحظة، والمنطقة مقبلة على تغيرات جذرية ستطال بالأساس وبالدرجة الأولى المفاهيم والأفكار المتعارفة لدينا حتى قبل حدوث أي تغير في الحدود المرسومة والمفروضة عنوّة على شعوب الشرق الأوسط، وما يجب على أردوغان إدراكه هنا هو أن الحدود  والحواجز الحقيقية نصنعها نحن البشر بأفكارنا ومعتقداتنا وليس كما يظن هو بالأسلاك الشائكة والقوالب الكونكريتية وكمّ الأفواه وتصفية المعارضين وحفر الخنادق.

   د. جاويدان كمال

التعليقات مغلقة.