تركيا في “أرض العجائب” السوريّة
شورش درويش
منذ أكثر من عام، وتركيا تواصل تهديداتها باجتياح عفرين ومنبج، الواقعتين تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد). ومع سيول التهديدات المتوالية، شهدت منطقة عفرين وضواحيها أعمال قصف مدفعي وصاروخي استهدف نقاطا، قالت الحكومة التركية إنها تابعة لوحدات حماية الشعب، بيد أن التهديدات أخذت بعداً غير مسبوق، إذ تواصل الحكومة التركية حشد قواتها على مقربة من الحدود السورية، بالقرب من عفرين ومنبج، بينما تنهال تصريحات الحكومة التركية من دون توقف، والحديث عن حرب وشيكة، واجتياح برّي رفقة قوات “درع الفرات” المدعومة من تركيا، والهدف المعلن للعملية، بحسب الرئيس رجب طيب أردوغان: “غدًا أو بعده .. سنتخلّص من أوكار الإرهابيين واحداً تلو الآخر في سورية، بدءاً بمنبج وعفرين”.
قد تدخل هذه التهديدات حيّز التنفيذ، فالعزم التركي مترافقٌ مع صمتٍ روسيّيمكن أن يفسّر بأنه من ثمرات الاتفاقات الجارية بين موسكو وأنقرة، في ما خصّ ترتيب الأوضاع في إدلب، بمعنى أن تكون عفرين الثمرة اليانعة التي ستسمح روسيا للأتراك بقطفها، في مقابل توسيع مناطق سيطرة النظام السوري. وقد سبق لاتفاق مماثل أن طبّق في حلب، فكان الدخول التركي إلى الباب وجرابلس، في مقابل بسط سيطرة النظام وروسيا على كامل مدينة حلب، وقد ساهم الاتفاق السابق في قطع الطريق على تمدّد “قسد” التي كانت ترمي إلى وصل المقاطعات الثلاث (الجزيرة، كوباني، عفرين) ببعضها، وصولاً إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسّط.
تعي حكومة “العدالة والتنمية” أن غربي الفرات، أي المنطقة تحت الإشراف الروسي، أكثر قابليّة لشنّ هجمات عليها، على عكس التي تحظى برعاية ودعم أميركيّين، وأنها خاصرة وحدات الحماية و”قسد” الرخوة. وبالتالي، سيعني اجتياح عفرين ومنبج وتوطيد أقدام قوات درع الفرات فيهما تهديداً مباشراً للقوات نفسها في الضفة الأخرى من الفرات، فمن شأن توسيع رقعة الحضور التركي في الداخل السوري جعلها أهم اللاعبين الذين سيحدّدون مصير أكراد سورية، عبر ربط الانسحاب التركي بنزع سلاح الوحدات و”قسد”، بالإضافة إلى الخلاص من كابوس تمدد الأخيرة على كامل منطقة الحدود السوريّة التركيّة.
في إزاء الموقف الروسي، ثمة اعتراض أميركي خافت على تصريحات تركيا وحشودها العسكرية، إلّا أن هذه الاعتراض الداعي إلى “التهدئة” على جانبي الحدود، قد يتحوّل مع بلوغ التهديدات والقصف المتقطّع مرحلة الحرب المباشرة والمفتوحة. وقد تعمد أميركا إلى تكرار تجربتها السابقة في المنطقة الخاضعة لـ”قسد، إذ عمدت، في وقت سابق من العام الفائت، إلى نشر قواتها وأعلامها في نقاط حدودية شرقي الفرات، بغية إيقاف القصف الجوي والمدفعي التركي الذي انصبّ على نقاط تابعة لوحدات حماية الشعب في محافظتي الحسكة والرّقة، وقد نجح انتشار القوات الأميركية الذي شكّل فزّاعة حيّة للقوات التركية.
في المقابل، تعرف الولايات المتحدة أنها استفزّت تركيا إلى أبعد الحدود، خصوصا أنها أعلنت، أخيرا، نيتها تشكيل قوة حرس حدود هائلة العدد، مكوّنة من 30 ألف مقاتل، سيتم نشرهم على طول الحدود مع تركيا شرقي الفرات والعراق، من دون منح رفض تركيا ومخاوفها أدنى اعتبار، فالحديث عن خلاف تركي أميركيّ متنامٍ بات أقرب إلى السرّ المفضوح، وشقّة الخلاف هذه قد تدفع تركيا إلى عدم الإصغاء إلى دعوات أميركا الراغبة في التهدئة، لكن من شأن أي تصعيد تركي يتجاهل الموقف الأميركي أن يساهم في مضي الأخيرة في دعم القوات الكردية، وتمكينها من كل مقومات معاندة الاجتياح التركي ومقاومته. وبالتالي، فإن من شأن حربٍ كهذه أن تستنزف القوة التركية المهولة، وتحويل الحرب إلى معارك طويلة الأمد.
وعليه، تبدي الحكومة التركية مزيجاً من الثقة في النفس، والثقة في صمت القوى الفاعلة في المسألة السوريّة، إلا أن أرض الواقع السوريّ غالباً ما بدّدت تفاؤل المتفائلين غير مرّة، وليس التفاؤل التركي استثناءً، خصوصاً إذ دار الحديث عن قوّة مثل “قسد” فاجأت الجميع بقدراتها على الحفاظ على المناطق التي تسيطر عليها، خصوصاً وأن هذه القوة باتت تجيد نسج العلاقات مع القوى الفاعلة على الأرض السورية، ناهيك عن مسألة تكديس السلاح والعتاد والكفاءة القتالية، وصولاً إلى إجادتها مغازلة المجتمعات المحليّة، والالتحاف بالحواضن الشعبيّة. لذا يمكن القول: إن الحرب وإن وقعت والاجتياح وإن حصل، فإن مسار الأحداث لن يكون رحلة هانئة، تدوم أسبوعا، على نحو ما وصفه قادة تركيا، فمن الصعب، بل ربّما من المستحيل، التخمين والتقدير والتنبؤ حول مآلات الأحداث داخل الأرض السوريّة التي حُقّ أن نسميها أرض العجائب.
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.