لتحالف كردي عربي في ظل الهيمنة الإيرانية- التركية

37

آزاد أحمد علي

 

نشرت تحليلات كثيرة حول النكسة السياسية التي حلت بمشروع استقلال كردستان العراق، وتعاطف وتفهّم سياقَ الحدث العديد من الكتاب والساسة العرب، وكانت لمواقفهم النبيلة وقعها الطيب على نفوس الكرد المصدومين بلؤم الساسة الغربيين.

من جانب آخر عبرت الآراء الكردية المستاءة عن نفسها في شكل تراجيدي، وتجسد غالبيتها في نقد سهل للذات الكردية وإحالة موضوع فشل الاستفتاء وعدم مقاومة القوات الغازية على الفساد وانقسام الصف الكردستاني، فضلاً عن التوقيت غير المناسب للاستفتاء وغدر الحلفاء والشركاء. بصرف النظر عن درجة صدقية هذه الآراء على اختلافها، ما زال هنالك من يعتقد بصحة إجراء الاستفتاء وتوقيته السليم مع حدوث بعض التأخير، إذ لم يكن أمام المجتمعات الكردستانية سبيل آخر سوى التعبير عن رأيها وتقرير مصيرها السياسي بتأكيد حقّها في الاستقلال وبناء دولة مستقلة من دونها لن تتحقق التنمية، أو الديموقراطية، ولن يُحارَب الفساد.

ولن أبالغ إن صوّرت عملية الاستفتاء بأنها كانت قومية كردية شاملة لكل أجزاء كردستان، بل أرجح الرأي أن عملية الاستفتاء شكلت على نطاق أوسع مشروعاً تغييرياً وآخر حجر تم إلقاؤه في بركة الشرق الأوسط الآسنة سياسياً وفكرياً. ولكي ندرك ما حصل في كردستان بعد سقوط كركوك علينا بالرجوع إلى نكسة كتالونيا. ففي الأعوام الثلاثين الماضية تشكلت نحو ثلاثين دولة جديدة وانضمت إلى أسرة الدول المستقلة. لكن من الملاحظ أن غالبية هذه الدول تأسست على أنقاض الاتحاد السوفياتي (15 دولة)، وعن تفتت يوغوسلافيا (7 دول)، كما انقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين. الدول التي نشأت خارج إرث المنظومة الاشتراكية، كإريتريا وجنوب السودان وتيمور الشرقية، هي استثناءات قليلة تثبت القاعدة، أي قاعدة عدم السماح بولادة دول جديدة إلا في سياق خدمة وصراع الغرب مع الجهات المعادية (كالمعسكر الاشتراكي) سابقاً. هذا يعني أن الغرب وافق بعد الحرب العالمية الثانية على تفكيك الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا فقط، ولم يساعد الشعوب في تقرير مصيرها السياسي. فالليبيرالية التي روّج لها الحلف الأطلسي والغرب الرأسمالي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي كانت ليبيرالية مخادعة وموقتة، استهدفت تفكيك روسيا وضم شرق أوروبا فقط. لذلك فأول دلالات رفض استقلال كتالونيا وسجن دعاتها هو وأد الديموقراطية الليبيرالية الغربية وانكشاف وجهها المخادع. لقد أثبتت تجربة كتالونيا أن الغرب الأورو- أميركي هشّ ويشعر بالذعر من أي ممارسة ديموقراطية تحررية جذرية لشعوبه ومكوناتها المجتمعية.

هذا الموقف الأورو- أميركي من استقلال كتالونيا يُعد بداية لمرحلة جديدة، مرحلة انتهاء الليبيرالية المرافقة لفترة السكون والحريات بعد الحرب العالمية الثانية، بداية للهيمنة الشاملة لرأس المال المسلح، المتشكل من تحالف الرأسمال النفطي والعقاري والمجمع العسكري الصناعي الغربي. وطبيعة الشخصيات الحاكمة بخاصة في الإدارة الأميركية، وحجم موازنتها العسكرية لعام 2018 البالغة سبعمئة بليون دولار تترجم هذا التحالف.

إن مرحلة ما بعد كتالونيا تتصف أيضاً بهيمنة الحكومات المركزية الصلبة على الشعوب الضعيفة. فما حصل لكتالونيا أقسى بكثير مما حدث لإقليم كردستان العراق. فكردستان ليست لديها لا تقانة ولا تقدم ولا اقتصاد كاقتصاد كتالونيا السياحي المتطور، وليس لديها بحر ولا هي من قلب أوروبا الغربية، وليست مجاورة لفرنسا وسويسرا.

لكن الزمن وحده كفيل بترجمة الحق الكردستاني في المستقبل، وليس بالضرورة أن تتم مواجهة جحافل الغزاة عسكرياً. فمن الخطأ إهدار دماء أبناء العراق واستنزاف قوى المجتمعات الإسلامية في مناخ هيمنة منظومة الغرب غير الديموقراطية على العالم. فالسيادة لا يمكن استجداؤها ولا استيرادها من الغرب الرأسمالي، الذي تبين أنه غير مهيأ لمنحها حتى لشعوبه، إنما تنبثق السيادة من احترام حقوق الآخر والوعي بحقوق جميع الشعوب والمكونات.

كردستان ما بعد كتالونيا لم تعد في حاجة إلى الكرنفالات الديموقراطية، ولم تعد في حاجة إلى جيوش جرارة ولا إلى مشروع لشق قناة للبحر، فكل هذه العوامل لن تشكل رافعة للاستقلال. إن التمسك بحق السيادة والوعي به ينبثق من مفهوم الكرامة والمواطنة والابتعاد عن الصفقات السياسية المريبة، فضلاً عن أنه يؤسس على احترام إرادة الجوار. وحجر الزاوية في مشروع استقلال كردستان العراق يكمن في إعادة جدولة التحالفات، والتأسيس للشراكات مع العرب في الجوار في شكل خاص، فالتحالف مع عرب الجوار هو أهم بالنسبة إلى الكرد من التحالف مع الغرب، الذي قام بفعلته الأخيرة، متمسكاً بنظام الهيمنة الشامل الذي لا يحترم طموحات كل الشعوب في الأطراف.

المسألة الجوهرية بالنسبة إلى كردستان ما بعد كتالونيا هي العمل على ترسيخ الوعي بفقه الجوار، وتضافر الجهود لوضع حد لهيمنة «الكولونيالية الإقليمية» الجديدة، التي تترسخ بقيادة إيرانية– تركية مشتركة. فما حدث لكتالونيا ولكردستان هو نتيجة موضوعية لعطب وجور النظامين العالمي والإقليمي، ومن المتعذر درء أخطار هذا النظام من دون إعادة قراءة كل الأساسيات والمسلمات التي سيطرت على المخيلة الجمعية لنخب وطلائع أبناء المنطقة.

المصدر: الحياة

 

التعليقات مغلقة.