البديل من إنهاء الأزمة بين بغداد وأربيل .. أزمة أخرى

34

كامران قره داغي

 

يمكن القول إن الصراع الطويل الأمد الذي شهد مراحل عنف دموي بين المركز والكرد لم ينتهِ بتأسيس «العراق الجديد» عام 2003، بل استمر في أشكال مختلفة من دون استخدام العنف، إذا أخذنا في الاعتبار أن المواجهات المسلحة التي نشبت الشهر الماضي بين الطرفين إثر استفتاء الاستقلال في كركوك وغيرها من المناطق المتنازع عليها كانت محدودة. ولا جدال في أن إقليم كردستان تحمّل خسائر سياسية واقتصادية وجغرافية وديبلوماسية، فيما السلطة الاتحادية تعزز مواقعها داخلياً وإقليمياً ودولياً بعدما أعادت سيطرتها على مناطق متنازع عليها كانت سلطات الإقليم انفردت بإدارتها بعدما انسحبت منها القوات الاتحادية إثر هجوم «داعش» في حزيران (يونيو) 2014.

لكن السلطة الاتحادية يمكنها أن تعلن الآن أنها طوت صفحة الهزيمة أمام «داعش» بالقضاء على التنظيم الإرهابي واستعادة السيطرة على المناطق التي احتلها. يزيد من ثقة بغداد بنفسها أن تطورات ما بعد الاستفتاء وأحداث كركوك تساعد في تعزيز الحكم المركزي، بل حتى في تفريغ النظام الفيديرالي الذي ينص عليه الدستور في مادته الأولى من معناه. يُقال ما سلف مع تأكيد أن الأمر الوحيد الذي لن تنجح بغداد في تحقيقه هو كسب ثقة الكرد وإقناعهم بأن مصلحتهم تكمن في تعزيز وحدة العراق، في حال لم تتخل عن نشوة الانتصار في التعامل معهم والسعي إلى إضعاف إقليمهم. يخبرنا التاريخ أنه كلما سعت السلطة المركزية أكثر إلى إضعاف الكرد وتهميشهم والتعامل الفوقي معهم زاد تفاقم أزمات العراق وتضعضع تماسكه الاجتماعي وضعفت ثقة الكرد بعراق مركزي قوي. هذا الواقع ظل هاجس الكرد منذ تأسيس العراق في العشرينات من القرن الماضي حتى إطاحة النظام البعثي عام 2003 عبر غزو خارجي دعمه الكرد بكل قوة. بداية، تنفّس الكرد الصعداء متفائلين بقيام نظام فيديرالي وفقاً للدستور الحالي الذي لعبوا دوراً رئيساً في صياغته وإقراره. لكن هذا التفاؤل أخذ يتلاشى مع تراجع الشركاء العرب في بغداد عن حماستهم التي أبدوها للفيديرالية خلال كتابة الدستور، الأمر الذي انعكس في مساعي المركز إلى تهميش سلطات إقليم كردستان بصورة متزايدة طردياً مع ازدياد قوة المركز اقتصادياً وعسكرياً. انعكست هذه النزعة تحت ذرائع بعضها واقعي ومعظمها مختلق، أولاً باستخدام الضغط الاقتصادي على الإقليم عبر التحكم بحصّته من الموازنة وقطع رواتب موظفيه، وانتهى الأمر باستخدام القوة العسكرية بعد إقدام الإقليم على إجراء استفتاء الاستقلال في أيلول (سبتمبر) الماضي. يقودُنا ما سلف إلى الوضع الراهن والأزمة المتفاقمة منذ إجراء الاستفتاء في العلاقات بين بغداد وأربيل التي دخلت في طريق مسدود حتى الآن.

من نافلة القول إن هذه الأزمة ليست وليدة تداعيات الاستفتاء بل كان متوقعاً أن تتفجّر آجلاً إن لم يكن عاجلاً، وذلك منذ تفاقم العلاقات بين الطرفين في ظل ولاية رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي عمد إلى التصعيد حيال الإقليم. الحرب ضد «داعش» كانت السبب الوحيد في تأخير المواجهة بين بغداد وأربيل، ولو أن الأمل بإمكان تجنبها انتعش بعد انتخاب حيدر العبادي رئيساً للوزراء، وبدء تعاون غير مسبوق بين القوات الاتحادية وبيشمركة كردستان في التصدي للتنظيم الإرهابي، و «لأول مرة تختلط دماء قوات البيشمركة بدماء الجنود العراقيين في محاربة عدو مشترك»، على حد تعبير رئيس الإقليم وقتها مسعود بارزاني، الذي اعتبر عام 2016 أن «وجود هذه الروح الأخوية أمر في غاية الأهمية»، لكن تلك «الروح الأخوية» لم تعمر طويلاً، كما أظهرت تداعيات الاستفتاء لاحقاً.

في ضوء ما سلف، فإن السعي إلى استخدام قوة المركز لتهميش الكرد عبر إضعاف إقليمهم الفيديرالي وإدخاله في أزمة، سيقود بالضرورة إلى دخول العراق كله في أزمة سياسية وأمنية. بعبارة أخرى، إن التلكؤ في حل الأزمة مع إقليم كردستان لن يحصّن بغداد والعراق من الأزمات. من حق بغداد أن تتباهى بالانتصار على»داعش» وتحرير أراضي العراق التي كان يحتلها منذ منتصف 2014، لكن ليس من دون دور حاسم لإقليم كردستان وبيشمركته. لكن استعادة سيطرة المركز على مناطق متنازع عليها كانت تحت سيطرة قوات الإقليم أمر آخر. قد تعتبره بغداد «مكسباً»، لكنها ستفقده سريعاً ما لم تتخلَ عن نشوة النصر وتنجح في كسب ثقة الكرد الذين صوّتوا بـ «نعم» بغالبية ساحقة في استفتاء الاستقلال وإقناعهم بجديتها في حل الخلافات مع الإقليم. بعكس ذلك، فإن استمرار الأزمة بين الطرفين سيهدد استقرار العراق وأمنه، وبالتالي يضعف المركز بدلاً من أن يقوّيه.

إلى ذلك، يتعين التخلي عن إيجاد ذرائع للتباطؤ في بدء الحوار مع أربيل من نوع التمسّك بشكليات لفظية عبر الإصرار على استخدام الإقليم عبارة «إلغاء الاستفتاء» بدلاً من «تجميد نتائج الاستفتاء»، ما دام الطرف الكردي يؤكد التزامه الدستور العراقي واستعداده للحوار في إطاره. في السياق ذاته، يتعيّن القبول بأن هذا الدستور لا يوفر حلاً لجميع المشكلات، لأنه هو ذاته يشكل جزءاً من المشكلات، بسبب غموض وضبابية كثير من مواده المتعلقة بصلاحيات المركز والإقليم، وبالتالي التسبب في تفاقم الخلافات بينهما.

منذ 2003، ظلت العلاقة بين بغداد وأربيل تلعب دوراً رئيساً ليس في في تحديد مسيرة العملية السياسية فحسب، بل في المواجهة العسكرية المشتركة في الحرب ضد «داعش»، الأمر الذي يؤكد أن الحفاظ على هذه العلاقة شرط ضروري لتحقيق استقرار العراق. أكيد أن هذه العلاقة تعرضت في السنوات القليلة الماضية لهزات عدة أقواها هزة ما بعد الاستفتاء. وأكيد أيضاً أن أسباب هذه الهزات ما زالت قائمة، لكن الوضع الراهن يفرض تجاوزها لحل الأزمة بين الطرفين لأن البديل من إنهاء الأزمة… أزمة أخرى!

 

المصدر: الحياة

التعليقات مغلقة.