الفيدرالية ضرورة واقعية
*عبدالحليم سليمان
لربما لم يأتِ مطلب الفيدرالية من فراغ حينما رفعه الكرد في مظاهراتهم السلمية كشعار للحل في سوريا بعدما اشتد فيها النزاع العسكري بين نظام لا يقبل سوى نفسه في السلطة ولا يعرف التعامل مع المختلف معه سوى بلغة الحديد والنار، وبين معارضة عسكرت نفسها بارتباط عضوي خارجي له أجنداته الخاصة إن لم نقل أطماع في جغرافية سوريا ومواردها.
المناداة بالفيدرالية في تلك المظاهرات لم تكن كافية لجلب الحلّ والاعتراف بالوجود الكردي في الشمال السوري المثبت علمياً حسب الأيقونات التاريخية والتي أثبتت وجود الكرد كسكان أوائل في معظم المناطق التي يقطنونها الآن، فالواقع السوري مشتت بين ذهنيات السلطة والإنكار تتقاسمها النظام والمعارضة.
قبل خمسة أعوام وفي مثل هذه الأيام وقعت مدينة سري كانيه تحت سيطرة الكتائب المسلحة المعارضة بقيادة جبهة النصرة وغرباء الشام – فعلياً – والمجلس العسكري بالحسكة التابع للجيش الحرّ – شكلياً – ومع تهديداتهم بالوصول إلى نهر دجلة في ديريك أصبحت كلمة الفيدرالية شيئاً أقرب للمستحيل، لكن جمعاً من شباب سري كانيه بقيادة كوادر فريدة من وحدات حماية الشعب كان لهم طريقاً آخر وهم أول من بدأوا بتثبيت الفيدرالية فعلياً حينما احتفظوا بنقاطهم شرق المدينة وتقدموا منها على حساب الكتائب المسلحة المعارضة وغياب النظام.
التطورات الدراماتيكية وصلت ذروتها لدى هجوم تنظيم الدولة – داعش – على مدينة كوباني بغية تفتيت التواجد الكردي في الشمال السوري وكذلك تموضع القوة الصانعة للفيدرالية وصلت إلى ذروة تحالفاتها الواقعية عندما هبطت الذخائر والمساعدات عبر المظلات الأمريكية في الجغرافية المتبقية بيد وحدات حماية الشعب في كوباني فأصبح للمقاتل الكردي حليفاً عسكرياً وخطا من خلال هذا الحلف خطوات عملية نحو الفيدرالية.
اليوم وبعد تأسيس مجلس سياسي خاص للارتقاء بالإدارة الذاتية في الكانتونات الثلاث ( الجزيرة – كوباني – عفرين ) نحو الفيدرالية عبر إيجاد هياكل تشريعية وتنفيذية وقضائية والتي بدأت بالانتخابات الخاصة بالأحياء والقرى ( الكومينات ) كمرحلة تأسيسية أولية وبالوصول إلى المرحلة الثانية لمجالس البلدات والنواحي والمقاطعات والتي تمثل التشكيل الإداري الأساسي لبنية الهياكل الإدارية لفيدرالية روجآفا وشمال سوريا في حين أن المرحلة الثالثة والأخيرة ستكون في نهاية السنة الحالية وبذا يتضح المشروع العملي والحقيقي للفيدرالية الجغرافية في الشمال السوري والتي تضمّ إلى جانب الكرد والعرب بقية المكونات الاجتماعية والعرقية والدينية في المناطق التي حررتها قوات سوريا الديمقراطية من تنظيم داعش.
فيدرالية شمال سوريا تسعى للولادة في ظل تحديات جمّة، لا سيما الوضع السياسي الكردستاني يلقي بظلاله العاطفية على أجواء الشارع الكردي في سوريا والخشية من انتكاسات سياسية وعسكرية قد تحصل على غرار ما جرى في كوردستان العراق وربما العبرة الأكثر فائدة مما جرى في كوردستان العراق هو تحسين وتحصين الجبهة السياسية الداخلية حيث أن الفرصة مواتية لإحداث حياة سياسية حقيقية تكون صناديق الاقتراع الفيصل فيها أو على الأقل تضع بنية أولية سليمة لذلك هذ لا يعني مطلقاً القبول بالارتماء في أحضان معارضة رهينة لأجندة الدول الإقليمية وفي مقدمتها تركيا التي ترفض أي ملف يوضع في حقيبة التفاوض مع النظام.
التحدي الداخلي الأساسي الآخر هو توافر الأمن ومستوى المعيشة فيما القدرات والكفاءات الإدارية هي ضرورات سلامة المؤسسات والأجهزة التنفيذية ومن دونها ستجد المحسوبية والفساد أقنيتها للتعشعش داخل المؤسسات الوليدة.
خطرٌ هادئ بلا ضجيج يحيط بالحدود الجنوبية لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية وفيدرالية شمال سوريا المتمثل شكلا بالنظام ومن ورائه إيران، فالأول أطلق تصريحات مضطربة تجاه الإدارة الذاتية، تارة بالوعيد وأخرى بالقبول بالحوار حول الإدارة الذاتية أو الحكم الذاتي إلا أن مسؤولين كبار في فيدرالية شمال سوريا أكدوا أكثر من مرة بأن الحوار الممكن هو فقط حول الفيدرالية أي أن صيغة الحكم الذاتي أصبحت أقل من مستوى التفاوض عليه مع النظام ، كما أن النظام عبر بقعه المتبقية في قامشلو والحسكة يسعى دائما لشحذ همم مواليه بوعود العودة الكاملة وهو ما ينذر بنشاط لأتباعه في المدن والأرياف وهذا يعني أن النظام لا يقبل بكل الأحوال بالفيدرالية لطالما أمكنه ذلك.
تركيا تسعى من جانبها للحصول على صفقة تطمئنها للحد من تواصل المقاطعات الثلاث وذلك عبر دخولها عفرين واجتياحها عسكريا وإحداث منطقة نفوذ كاملة تمتد من جرابلس حتى الحدود الغربية لمحافظة إدلب وبذلك تضمن موطئ قدمها في البلاد ناهيك عن تحقيق حلم مؤجل فشل مرة في كري سبي ( تل أبيض ) وآخر ناقص في جرابلس والباب، وهنا يبدو أن الروس يتوجهون نحو أقصى استفادة من الأتراك عبر تنازلاتها على حساب المعارضة المستضافة عندهم فالأتراك في كل مرة يتنازلون عن جزء من نفوذهم مقابل الحصول على تفويض لضرب الوجود الكردي كان آخرها دخول قواتها إلى إدلب وإقامة نقاط مراقبة عند جبل سمعان جنوب عفرين.
الجانب الأمريكي لم يتعامل حتى الآن سياسياً مع ملف فيدرالية شمال سوريا ولا مع الإدارة الذاتية ولا يبدو أن ذلك سيحدث في القريب العاجل بينما عسكريا ما زالوا يقودون التحالف الدولي ضد الإرهاب ومتواجدين في المناطق ذاتها التي تخلصت من نير داعش والعسكريون يعملون كعسكر فقط في المنطقة بعيداً عن منطق التعاطي السياسي فلا شيء واضح ومعلن تجاه ما يطمح إليه الكرد لتحقيق الفيدرالية مع سكان شمال سوريا بعيداً عن مركزية الدولة وعنجهية السلطة، فيما يبقى الطريق الوحيد أمام الكرد هو العمل من أجل الوصول إلى الفيدرالية بإرادة قوية وبأجواء داخلية صحية فالإرادة كفيلة بصنع عوامل جديدة في المستقبل.
* صحفي مقيم في مدينة سري كانية
نشر هذا المقال في العدد /70/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 1/12/2017
التعليقات مغلقة.