المهنة صياد سمك

47

طه خليل

 

ترقرقت الدموع في عين العجوز النمساويّ ( ل. غ ) وهو يتحدث عن الكومينات في روجآفايي كردستان قائلا لي بحسرة: ” أتعرف عندما قمنا في منتصف الستينات بثوراتنا في أوروبا ( ثورة الشباب في اوروبا 1966 ) كان حلمنا يومها بناء مجتمع ديمقراطي وليس نظام حكم ديمقراطي، وكنا نفكر أن الخطوة الصحيحة بذلك الاتجاه هو بناء الكومونات التي هي من تقرر شكل الحكم وبناء المجتمع، لكننا فشلنا وتعرضنا لأبشع أنواع القمع والتنكيل وتفرقنا جماعات ومجموعات، هناك من انضم إلى فدائيي فلسطين وهناك من اتجه إلى نيكاراغو، أو انضم إلى الألوية الحمراء في إيطاليا، وهناك من أقام مجموعات مسلحة كماينهوف واولريكه في ألمانيا، وبالنتيجة فشلنا جميعا، وذهبت بنفسي إلى دول امريكا اللاتينية وحاولنا هناك بناء الكومونات أو ما يشبهها فشلنا كذلك، فاتجهنا إلى بناء المنتدى الاجتماعي العالمي رداً على المنتدى الاقتصادي الرأسمالي، وها اليوم أرى أن شيئا من أحلامي قد تحققت عندكم.”

كنت أستمع إليه وأنا أتذكر ” أبو ح. ” رئيس أحد الكومينات إذ ذهبت إليه ذات مرّة لأحصل على ورقة تثبت ” حسن سلوكي ” وبأنني معروف من قبلهم، كي أقدم ورقته بالتالي إلى “Mala Gel” فيصادقون عليها، ثم آخذها إلى مديرية الزراعة للحصول على بطاقة تخوّلني صيد السمك باستخدام ثلاث سنارات فقط للصيد، ( صديقي أبو سونا يرمي أربعين سنارة ـ نسميها مدافع ـ ولا يشبع فكيف بمديرية لا تسمح لنا إلا باستخدام ثلاث فقط ) ثلاثة أيام وأنا أراجع الكومين، والرئيس لم يكن موجودا، قيل لي أنه يذهب إلى القرية لشؤون  الحصاد، وفي اليوم الرابع ركبت ” شينى ” واتجهت إلى قرية رئيس الكومين بعد إن قرأت آية السفر : ” سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين ” وبعد ساعتين وصلت، فاتجهت إليه، وهبط الرجل من الحصادة، مستغرباً وجود مذيع تلفزيوني هناك: ” أكيد جئت لتصوير برنامج عن الحصاد هفال طه “.

فقلت:” لا والله إنما جئت لتوقّع لي ورقة كشهادة تعريف لأحصل على بطاقة صيد سمك.” ففتح أبو ح. فمه مستغرباً، وقال:” والله هذا ليس من اختصاصنا. “، فقلت نعم عليك فقط أن تكتب انني معروف من قبل كومينكم. فردّ مؤكداً، ليست المشكلة هنا، المشكلة أنك ستستخدم هذه الورقة لموضوع الصيد، نحن نوقع على ورقة تعريف للسكن، للسفر إلى ” كردستان ” للتأجيل العسكري، للحصول على المعونة، والإغاثة، وكذلك للزواج وترخيص السلاح، أما صيد السمك فلم يمرّ بنا الموضوع.

فعدت خائبا، وفي اليوم التالي ذهبت إلى الكومين وإذ بأبي ح. هناك، وما إن لمحني قال لي، ما الذي حصل معك من أجل تلك الورقة. فقلت مشي الحال بدونها، فانفرجت أساريره وقال لي: ” أرأيت قلت لك لا علاقة لنا بالصيد ” فقلت له لكن يلزمني ورقة تعريف من قبلكم، ربما أرخّص بندقيّة بى كى سى.” فقال أهلا وسهلا طبعا أنت معروف للكل.” وطجّ لي الختم وخرجت إلى بيت الگل.. ثم إلى المديرية لأحصل على بطاقة كتبوا عليها الاسم والكنية والمهنة: صياد. ولا يجوز استخدام أكثر من ثلاث سنارات للصيد ويمنع الصيد في بحيرتي حياكا ومزكفت.

أما صديقي النمساوي، فقد دعاني بعد عدة أشهر للمشاركة في المنتدى الاجتماعي العالمي الذي أقيم في تونس، وذهبت هناك، وهناك وجدت بحرا، وبيوتا مطلية بالأبيض وأبواب وشبابيك زرقاء، وكلها تطل على البحر، كل تونس تطل على البحر، وألقيت محاضرات هناك في تونس وحلق الواد وسيدي بوسعيد، وتعلمت من التونسيين طريقة إعداد عجينة الصيد، والتقيت بأناس لطيفين وأقاموا لي أمسية شعرية في تونس العاصمة، في الأمسية لاحظت من خلال النقاشات والمداخلات أن الشباب التونسي مفعم بالثقافة والشعر والمسرح والسينما، عشرة أيام قضيتها في تونس لم أرَ أية إشارة إلى مجتمع متطرف يصدّر الإرهابيين إلى العالم، بل مجتمع حيّ ونشيط يفور بالحراك الشبابي الثوري والثقافي.

بعد عودتي علمت أن احتجاجات الصيادين قد جعلت المديرية تسمح بالصيد في حياكا، وحدها بقيت مشكلة أبو سونا في عدد السنارات، ومشكلتي مع أبو ح. الذي لا يعرف حتى الآن أنني استخدمت ورقته تلك للحصول على بطاقة الصيد وليس لترخيص البى كى سى.

تلك وحشة روجآفايي كردستان، وتلك رقرقة الماء في الصباح الباكر اذ أرى وجه الرسولة ينعكس على البحيرة، فآخذ حيرتي عجينة ألبسها إبرة السنارة وأرميها هناك فلا يعلق بها إلا ظلها، لأجرّه على مهل، أحضنه وأنام تحت هذه السماء القاسية.

 

 

نشر هذا المقال في العدد /70/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 1/12/2017

التعليقات مغلقة.