قراءة في أحداث كركوك الكردستانية

86

 

 

*د. شوقي محمد

يقف العامل الجيوسياسي إلى جانب العامل الاقتصادي وراء كل ما حدث في إقليم كوردستان العراق وحيث كان الاستفتاء خيار الشعب الكردي ومحاولة جادة لتجسيد حلمه التاريخي وجاء في السياق التاريخي والواقعي السليم فقد جاءت ردود الأفعال على شكل إرهاب سياسي بامتياز تجاه إرادة الكرد حيث اتسمت بالعدائية من قبل الحكومات الدول الإقليمية وبالخذلان من قبل حكومات الدول الكبرى التي ظهر زيف مواقفها من حقوق الشعوب ومخالفتها للاتفاقات والمواثيق الدولية وانطلاقها من مصالحها الجيوسياسية أولا دون الاكتراث بمصائر الآخرين.

“ما حدث كشف هشاشة مؤسسات الدولة التي كانت مقامة في إقليم كوردستان لصالح الولاءات الحزبية والعشائرية وأن الإقليم خلال الفترة الماضية لم يتمكن من بناء مؤسسات قانونية وعسكرية تتوافق مع روح الدولة المعاصرة بسبب تغليب الطابع الحزبي والعائلي على المصالح القومية للشعب الكردي”

شكلت عملية الاستفتاء التي أقدم عليها الرئيس مسعود البرزاني خطوة تاريخية مفصلية في تاريخ الشعب الكردي إلا أنها استخدمت في نفس الوقت ذريعة لمهاجمة إقليم كوردستان بعد الفراغ من داعش. ففوبيا الكرد ما تزال تقض مضاجع حكومات الدول التي يتواجد فيها الكرد والتي يتعايشون مع شعوبها منذ آلاف السنين دون أن يسجل التاريخ يوماً بأن الكرد تعدوا أو تسببوا بمآس لأي من تلك الشعوب وعلى العكس فإن تلك الحكومات لم توفر أية فرصة في إذلال الكرد وتهجيرهم وإلحاق الأذى بهم توجت بحرمانهم من تشكيل دولتهم القومية في عشرينيات القرن الماضي والتي ما يزالوا يعانون من تبعاتها حتى اليوم وقد اشتركت في إلحاق الظلم والحيف التاريخي بهم كل الشعوب الجارة لهم من ترك وفرس وعرب مما دعا بالروائي الكردي سليم بركات بالقول “أصبحنا بين أهواء السلاطين الثلاث إن اجتمعت أهواؤهم كانت وبالاً وإن اختلفت أهواؤهم كانت وبالاً”.

وحيث تمر منطقة الشرق الأوسط اليوم بحراك ومخاض تاريخي كبير أشبه ما يكون بزلزال جيوسياسي تعمل الدول العظمى من خلاله على إعادة ترتيب لوحتها السياسية والاقتصادية والجغرافية وتعمل على رسم خرائط جديدة على المستويات المختلفة تلك وفي ذلك أدت إيران دوراً هاماً في تحقيق مثل هذه الأجندات والاستراتيجيات أو على أقل تقدير سارعت في تواتر الأحداث من خلال مشاريعها في زعزعة المنطقة بهدف خلق محور شيعي يساندها في مواجهاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية.

والمراقب لما حدث في إقليم كوردستان ولكل الأحداث والإجراءات السياسية والأمنية والاقتصادية التي اتخذتها حكومة العبادي بإيعاز من إيران وتركيا يلاحظ بوضوح أن العبادي وتحت ذريعة الحفاظ على وحدة البلاد وفقاً للدستور يحاول خنق التجربة الكردية من جديد بعد النجاحات الاقتصادية والسياسية والأمنية للإقليم الذي يحظى بالأمن والاستقرار دون باقي المناطق والأقاليم العراقية وذلك من خلال استجراره للقوات الإيرانية وميليشياتها الطائفية والقيام بمناورات عسكرية مع القوات التركية على الحدود بهدف تهديد أمن وسلامة الإقليم فليس من الصعوبة ملاحظة أنه ليس موضوع الاستفتاء على استقلال كوردستان هو الذي يذهب بهذه الوحدة الهشة نتيجة ارتهان القرار السياسي والعسكري في بغداد لإيران وميلشياتها الطائفية حيث جاءت كل القرارات والإجراءات لنشر القوات الاتحادية وميليشيات الحشد الشعبي في المناطق المتنازع عليها تجسيداً لاستراتيجية إيران في فتح ممر بري آمن يصل عبر سوريا إلى جنوب لبنان لتقف على الحدود الإسرائيلية وتشكل بذلك ورقة ضغط في مواجهاتها المستقبلية مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وبالدخول إلى عمق الأحداث نرى ببساطة التنازلات الكبيرة لحكومة بغداد لكل من تركيا وإيران وللدول الكبرى صاحبة المصالح الحيوية والاستراتيجية في المنطقة حيث أغفل العبادي الحديث تماما عن وجود القوات التركية في بعشيقة والصفقة التي عقدها قاسم سليماني مع أحد أجنحة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني حول تسليم كركوك للمليشيات الشيعية وهي أرض عراقية كما يدعي العبادي. من جانبها كانت الحكومة الأمريكية غير راضية عن توقيت الاستفتاء وأن الأولوية من وجهة نظرها هي لمحاربة داعش وإمكانية سحب العراق من حضن طهران باتجاه حلفائها الخليجين في المنطقة أما الاتحاد الأوربي فبقي مراقبا من بعيد وبهدوء للأحداث الجارية هناك.

وفي الحديث عن العامل الاقتصادي يمكننا القول أن إقليم كوردستان كما باقي دول المنطقة في العمق هو ضحية حرب بسط النفوذ بين أمريكا وروسيا وبريطانيا وسياساتها في السيطرة على منابع النفط في الشرق الأوسط وتحقيق مصالحها الاقتصادية وبذلك يمكن الوقوف وبشدة عند العامل النفطي واحتياطيات كركوك النفطية التي تصل إلى 12مليار برميل من النفط وإنتاجها اليومي الذي يصل إلى 600 ألف برميل يومياً وكان مرشحاً لتجاوز المليون برميل يومياً الأمر الذي فتح شهية الدول الكبرى وشركاتها النفطية للتوجه إلى كوردستان وإبرام عقود نفطية مع حكومتها كان آخرها العقد الذي أبرم مع شركة روسنفت الحكومية الروسية وحكومة إقليم كوردستان باستثمارات تصل إلى3.5 مليار دولار الأمر الذي غير في المشهد السياسي والاقتصادي للإقليم إلا أن حكومة العبادي سارعت بعد سيطرتها على كركوك باستجرار شركة بريتش بتروليوم البريطانية لاستثمار وتطوير حقول النفط في كركوك مع الإبقاء على ثلاث مناطق متنازع عليها تحت سيطرة حكومة الإقليم تعمل فيها شركة إكسون الأمريكية في شيخان وقوشه.

وإذا كانت حكومة بغداد قد نجحت حتى الآن نسبياً في لجم جماح الحصان الكردي فإن ذلك لا يعكس قوة الحكومة العراقية ولا قوة تحالفاتها الداخلية أو الخارجية بل لتحقيق ذلك أصبح القرار في بغداد خاضعاً للتجاذبات الإقليمية ولسيرورة المصالح الاستراتيجية للدول العظمى وشركاتها النفطية مما يعرض العراق لخطر الانقسام المستمر على نفسه أولاً وعلى المنطقة ثانياً لأن تمدد الأذرع الإيرانية  في دول المنطقة وزعزعة أمنها من خلال العراق أمر لن يمر بهدوء من قبل الدول العربية الأخرى وخاصة المملكة السعودية وباقي دول الخليج العربي التي استشعرت بالخطر الكبير الذي باتت تمثله إيران على كياناتها وحكوماتها وممالكها فبادرت بالعديد من الإجراءات الدبلوماسية والعسكرية للحيلولة دون ذلك.

وانطلاقاً من النتائج التي يمكن قراءتها في المشهدين السياسي والاقتصادي في كردستان العراق عقب سيطرة الحكومة المركزية على المناطق المتنازع عليها والإجراءات التي باتت تتخذها يومياً بشأن إحكام الحصار الاقتصادي والسياسي والأمني على الإقليم الكردي يمكننا تلمس مايلي:

–    حالة العداء التي أظهرتها حكومة بغداد تجاه الكرد وإقليمهم وإعدام المادة 140 من الدستور العراقي الذي تهربت الحكومة العراقية من تطبيقها منذ عام 2004 وحتى الآن

–    انعدام الثقة بين حكومة الإقليم ودول الجوار بسبب بحث الأخيرة عن مصالحها الاقتصادية وآليات الحفاظ على أمنها القومي بحكم التواجد الكردي على أراضيها وانغماسها بمشكلات عسكرية وسياسية معها.

–    بحث الدول الكبرى عن مصالحها الجيوسياسية ضاربة بعرض الحائط كل التضحيات التي قدمها الشعب الكردي في محاربة التنظيمات الإرهابية ولا سيما داعش.

–    ما حدث كشف هشاشة مؤسسات الدولة التي كانت مقامة في إقليم كوردستان لصالح الولاءات الحزبية والعشائرية وأن الإقليم خلال الفترة الماضية لم يتمكن من بناء مؤسسات قانونية وعسكرية تتوافق مع روح الدولة المعاصرة بسبب تغليب الطابع الحزبي والعائلي على المصالح القومية للشعب الكردي وعدم حل الصراعات القائمة بين القوى المسيطرة هناك والولاءات التي أظهرها البعض للدول الإقليمية في نزاعها الأخير مع كوردستان على حساب ضياع تطلعات الشعب الكوردي وحلمه في بناء دولة كوردية ديمقراطية.  

وانطلاقاً مما ذكرناه أعلاه من نتائج واضحة للعيان هل يمكن أن يتكرر السيناريو الذي جرى في كوردستان العراق في سوريا حيث تسيطر القوات الكردية التي تشكل غالبية قوات سوريا الديمقراطية على مناطق واسعة من الخريطة السورية والتي تعتبر مناطق غنية اقتصادياً في الجزيرة وفي ديرالزور نفطياً وزراعياً مع تعالي أصوات من داخل الحكومة السورية بضرورة بسط سيطرة الجيش وسلطة دمشق على كامل التراب السوري وفق تعبيرهم.

” يتوجب على قادة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود السلطة في المناطق الكردية ويطالب بنظام فيدرالي في البلاد التمعن في قراءة خارطة التحالفات السياسية والاستراتيجية للدول المعنية بالصراع السوري واسقاطاتها على الجانب الاقتصادي والمصالح الاقتصادية لها والتي قد تلهث وراءها “

بالمقابل تطالب القوى الكردية المنضوية تحت لواء مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي بما تسميه فيدرالية شمال سوريا مستفيدة حتى الآن من التحالف مع القوى الدولية المتواجدة في سوريا وخاصة الولايات المتحدة وعبر محاربتها لتنظيم داعش الإرهابي بدعم من قوى التحالف الدولي الأمر الذي لا يلقى قبولاً على الصعيد المحلي السوري والإقليمي الخارجي حتى الآن.

وحيث تسير الأحداث السياسية والعسكرية في سورية خصوصاً وفي المنطقة عموماً على نحو غير متوقع وتوزع السيطرة الأمنية والعسكرية في البلاد بين الدول الكبرى والتحالفات التي تبنيها في الداخل السوري سواء مع الفصائل المسلحة على الأرض أو مع القوى الإقليمية وقواتها المتواجدة في سوريا لا سيما تركيا وإيران والتي تمارس الفعل العسكري إلى جانب الفعل السياسي.

وإذا كان الصراع المسلح في البلاد يلفظ أنفاسه الأخيرة فإن الصراع حول الحصول على مشاريع إعادة الإعمار ستكون عنوان المرحلة المقبلة بين نفس القوى الدولية والإقليمية.

وبالتالي يتوجب على قادة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود السلطة في المناطق الكردية ويطالب بنظام فيدرالي في البلاد التمعن في قراءة خارطة التحالفات السياسية والاستراتيجية للدول المعنية بالصراع السوري واسقاطاتها على الجانب الاقتصادي والمصالح الاقتصادية لها والتي قد تلهث وراءها خاصة وأن القوات الكردية باتت تسيطر على حقول نفطية هامة في البلاد وعلى عدة معابر حدودية مع كوردستان وتركيا مما قد ينبئ بصراع مسلح لاحق لا سيما أن حكومة دمشق لا تريد القبول بأي كيانات محلية من شأنها المساس بسيادتها على البلاد فضلاً عن ان تركيا صرحت لأكثر من مرة عدم سماحها لنشوء كيان كوردي على حدودها بالرغم من أنه لم يقرأ حتى الآن من الأحداث الجارية أية تباشير لمثل هذا الصراع المحتمل بين قوات الجيش النظامي وقوات سورية الديمقراطية التي تعلن عن نفسها جزءاً من الجيش الوطني السوري وذلك من خلال استمرار التواجد العسكري للطرفين في العديد من المناطق الجغرافية والتعاون التجاري المستمر واستمرار ارسال الشحنات النفطية من الرميلان إلى مصافي التكرير السورية وعدم حدوث اية مواجهات عسكرية بين الطرفين حتى الآن.

ولكن يبقى الأمر خاضعاً في النهاية لتقاطع المصالح الاستراتيجية لكل من الولايات المتحدة التي تساند قوات سوريا الديمقراطية ومدى التزامها بهذا التحالف حتى النهاية ولروسيا التي تساند قوات الحكومة السورية ومدى توافق الدولتين العظميتين على شكل نظام الحكم القادم في سوريا بعد انتهاء الحرب وتوزيع عقود إعادة الإعمار في البلاد ورؤاها حول القضية الكردية وحلها في المنطقة برمتها.

* أكاديمي كردي سوري

 

 

نشر هذا المقال في العدد /69/ من صحيفةBûyerpress بتاريخ 15/11/2017

التعليقات مغلقة.