الحلم الكردي المتجدّد: الاستقلال – عبدالباسط سيدا
السعي الكردي من أجل دولة مستقلة سعي قديم – جديد، يستمد حيويته من حاجة واقعية، ومن حق عادل. وحدها المصالح الدولية والمعادلات الإقليمية هي التي حالت دون بلوغ الكرد مطلبهم – الحلم المشروع.
وقد ساهمت الإيديولوجية القوموية الكمالية في تركيا، والبعثية في العراق وسورية، والإيديولوجية الدينية – المذهبية للنظام الإيراني لاحقاً في إعطاء دفعة حيوية للنزوع الكردي نحو الاستقلال، لأنها أدت إلى تشكّل مناخ عام غير سوي على الصعيد الشعبي، وحتى على صعيد النخب في ميدان التعامل مع المسألة الكردية، وذلك نتيجة الممارسات التمييزية على الأرض، وسياسات القتل الجماعي التي بلغت ذروتها في حملات الأنفال والكيماوي. هذا إلى جانب اعتماد سياسة الاضطهاد المزدوج من جانب أنظمة الدول المعنية بحق الكرد. وقد تجسّد ذلك في حرمانهم من أبسط حقوقهم القومية الطبيعية وتعرّضهم في الوقت ذاته لجملة من الإجراءات الاضطهادية استهدفت وجودهم القومي بكل أبعاده.
ومع انسحاب نظام صدام حسين من كردستان العراق عام 1991، ومن ثم سقوطه عام 2003، ومجيء حزب العدالة والتنمية إلى دفة الحكم في تركيا عام 2002، انتقلت المسألة الكردية في البلدين إلى مرحلة جديدة.
ففي العراق، حظي إقليم كردستان بوضعية شبيهة بالاستقلال على مختلف المستويات، وضعي تعززت بالشرعية الدستورية، وبالإنجازات اللافتة التي حقّقها الإقليم على مدى أكثر من عقدين، وذلك في ميادين التنمية والعمران والأمن والتعامل المنفتح مع المكونات الأخرى من قومية ودينية ومذهبية واحترام خصوصياتها، والتجربة الديموقراطية المتميّزة، والإمكانيات الاقتصادية الواعدة، بخاصة ما يتصل منها بالصناعة النفطية
أما في تركيا، فتمكّن حزب العدالة والتنمية من إنجاز مراجعة لسياسات تركيا التقليدية الخاصة بالمسألة الكردية، إذ لم يعد الحزب المذكور يعتبر المسألة المعنية خطراً لا بد من مواجهته، وإنما وجد فيها قضية لا بد أن تعالج بما ينسجم مع مصالح تركيا الوطنية والإقليمية. ومن هنا ترتبت أهمية استثنائية على دخول الحكومة التركية في محادثات مع حزب العمال الكردستاني من أجل إيجاد حل عادل للقضية الكردية في تركيا، ومن ثم اتخاذ البرلمان التركي قراراً أضفى الشرعية على تلك المحادثات، وحوّلها بالتالي من محادثات أمنية إلى محادثات رسمية معترف بها، تجريها الدولة التركية مع الحزب المذكور. والخطوتان غير المسبوقتين هاتان هما حصيلة منطقية للتوجه الانفتاحي والإيجابي الذي اعتمده حزب العدالة والتنمية في تعامله مع المسألة الكردية عموماً، ونتيجة إصرار الكرد على حقوقهم، وتضحياتهم في سبيلها.
وقد ساعدت التطورات السالفة الذكر وتفاعلاتها على تشكّل حالة من التكامل الاقتصادي بين إقليم كردستان وتركيا، وهي حالة تكتسب المزيد من النضج بفضل تجاوز الطرفين للآثار السلبية لذهنية التوجّس والتحسّب. وجاءت عملية تسويق نفط الإقليم عبر تركيا لتؤكد أن أمور التكامل بين الطرفين دخلت مرحلة مستقرة
أما على المستوى العراقي، فأخفقت حكومة المالكي في استيعاب المرحلة الجديدة، وعجزت عن النهوض بالمشروع الوطني. فإقليم كردستان كان عملياً منطقة مستقلة قبل سقوط نظام صدام حسين. وقد قرّر الكرد الدخول في العملية السياسية لاحقاً، شرط أن يحافظوا على خصوصيتهم، وأن يحصلوا على ما يطمئنهم، ويؤكد لهم بأن عمليات الإبادة ضدهم انتهت. وكل ذلك لم يتمكن المالكي من تحقيقه، بل مارس سياسة التضييق. ولم يبد أية مرونة حتى بعد اجتياح داعش للموصل وغيرها من المناطق.
وفي هذه الأجواء قدّم الرئيس مسعود البارزاني مقترحه بخصوص حق تقرير المصير إلى برلمان كردستان، وذلك رغبة منه في العودة إلى المؤسسات الشرعية لشعب كردستان بكل مكوّناته، من أجل اتخاذ القرار المناسب الخاص بمصيره.
فإذا تعاملنا مع هذا الموضوع من موقع خضوعنا للمنظومة المفهومية التي رسّختها الإيديولوجيات القوموية في المنطقة، بخاصة البعثية منها، فإننا سنواجه جملة من الأحكام المتشنجة، والاتهامات غير الواقعية. لكننا إذا أخذنا تاريخ المنطقة والصيرورة التي تشكلت بموجبها دولها، والتطورات التي كانت، وتلك التي استجدت، فإننا سنكون أمام معالجة هادئة موضوعية تأخذ في حسابها تطلعات شعوب المنطقة، ومقتضيات بناء علاقة تمازج حضاري في ما بينها، وذلك لمصحلة جميع هذه الشعوب من دون استثناء.
فالدولة الكردستانية إذا ما غدت واقعاً، ستكون بناء على عوامل التاريخ والجغرافيا والدين والثقافة والمصالح الاقتصادية المشتركة، على علاقة وئام مع الجميع، وستكون جسر التواصل الذي من خلاله تمتد الأواصر بين مختلف الأطراف في المنطقة.
أما العلاقة مع بغداد فستدخل مرحلة جديدة من التفاهم والعمل المشترك، ولكن شرط أن تمتلك بغداد هي الأخرى رؤية مستقبلية تستوعب المتغيرات، وتعطي الأولوية للمصالح الحقيقية للجانبين. وفي ما يتصل بالمكوّن العربي السني، فهو الذي يقرر بنفسه موقعه وموقفه من العملية الســياسية برمتها. ومن المنتظر في هذا السياق أن تكون للعلاقة المتميّزة بين القوى الســـياسية الحقـــيقية ضمن هذا المكوّن وقيادة الإقليم انعكاساتها الإيجابية على المصالح المتكاملة بين الطرفين.
أما بالنسبة إلى إيران، فيبدو أنها حتى الآن غير مستعدة للقبول بفكرة إمكانية استقلال إقليم كردستان، وذلك بناء على حسابات تخصّها هي من دون العراق، وبخاصة ما يتصل منها بكردها. أما على الصعيد الإقليمي فهي تجد في الشراكة الاستراتيجية المنتظرة بين كردستان – العراق وتركيا عاملاً لا يمكن تجاهله، وذلك سواء كان ضمن إطار الحكم الفيديرالي أم بعد الاستقلال المرتقب، كونه يمنح منافسها الإقليمي مجالاً حيوياً إضافياً، وخيارات أكثر. ومن الواضح أن النظام السوري لن يكون بعيداً من توجهات حليفه الإستراتيجي.
لكن النظرة المستقبلية إلى هذه المسائل وغيرها تبين أن مصلحة إيران الأكيدة تكمن في تحوّلها إلى عامل فاعل بصورة إيجابية في المنطقة، وذلك عوضاً عن سياساتها الراهنة التي تؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وتنذر بنزاعات كبرى لا طاقة للمنطقة على تحمّلها.
المنطقة ما زالت لوحة قاتمة، وأجواؤها ما زالت ملبّدة بغيوم كثيفة، غيوم قد تترافق مع عواصف هوجاء تقتلع في طريقها كل شيء وتفتح المجال أمام كل الخيارات، فيما تبقى حكمة العقل وحدها هي المخرج.
الحياة.
التعليقات مغلقة.