تركيا: تحالف إسلامي- قومي- يساري لمواجهة الكرد و «مؤامرات» أخرى
كامران قره داغي
زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ببراغماتيته الماكيافيلية، يستطيع أن يغير بسهولة مذهلة حلفاءه وأعداءه، فيحاربهم يوماً ويسالمهم في اليوم التالي. في الإطار هذا، تشهد تركيا حالياً تحالفاً غريباً يضم إلى جانب أردوغان نقيضين: إلى يساره الماركسي الماوي القديم دوغو بيرينجيك، وإلى يمينه زعيم حزب الحركة القومية المتطرف دولت باخجلي الذي أعلن الأسبوع الماضي أن الموصل وأربيل العراقيتين هما الولايتان التركيتيان 82 و83، ثم زاد عليهما عفرين وأدلب السوريتين باعتبارهما الولايتين التركيتين 84 و85!
هؤلاء الثلاثة تجمعهم قضايا عدة، ويحتل «الخطر الكردي» مكاناً في أعلى قائمة الأخطار التي تعتبر الأردوغانية أنها تهدد الوجود التركي، لكنها ليست الخطر الوحيد. لكن قبل الدخول في التفاصيل هذه الخلفية عن بيرينجيك.
بات مألوفاً أنه كلما اقتربت تركيا الأردوغانية من انتخابات عامة، يلجأ أردوغان إلى تحالفات تضمن حصوله على أعلى الأصوات التي تضمن له غالبية برلمانية تمكنه من تمرير ما يشاء من قوانين تكرس سلطته وتحقق طموحه في جعل تركيا دولة كبرى. حزب باخجلي له 80 مقعداً، ويأتي ثالثاً بعد حزب المعارضة الرئيسي «الشعب الجمهوري». مواقف حكومة أردوغان المتشددة ضد حزب العمال الكردستاني المحظور وحزب الشعوب الديموقراطي (الكردي) العلني بزعامة صلاح الدين ديمرتاش الذي اتهمته السلطات بدعم «العمال الكردستاني» وسجنته منذ عام تقريباً، حظيت بدعم قوي من باخجلي فدعم نوابه القوانين التي اقترحها حزب أردوغان وفي مقدمها اعتماد النظام الرئاسي.
لكن ما حاجة أردوغان إلى بيرينجيك الذي يتزعم حزباً صغيراً باسم «حزب الوطن» غير الممثل في البرلمان أصلاً؟ بيرينجيك ظهر على المسرح السياسي التركي في السبعينات، عندما أسس حزباً يسارياً ماوياً باسم «حزب العمال والفلاحين الثوري»، ثم غيّر اسمه إلى «حزب العمال والفلاحين التركي»، لكنه أوقف نشاطه السياسي إثر الانقلاب العسكري عام 1980. ثم عاد إلى السياسة في 1987 مؤسساً مجلة «2000»، وفي التسعينات شارك في تأسيس «الحزب الاشتراكي» ثم «حزب العمال» الذي أصبح رئيسه، وغيّر اسمه إلى «حزب الوطن» الذي ما زال يتزعمه. وعموماً قادته مسيرته السياسية والفكرية للعودة إلى المبادىء الخمسة التي قامت عليها الجمهورية: الكمالية (أو الأتاتوركية) والاستقلال والعلمانية والدولتية والقومية.
ما سلف يفسر مواقف بيرينجيك المتشددة ضد الكرد وقضاياهم. في حزيران (يونيو) الماضي إثر إعلان موعد استفتاء الاستقلال، اعتبر أن «كردستان المستقلة» هي «جزء من خطة الولايات المتحدة الأميركية وخطة إسرائيل لإقامة إسرائيل الثانية في غرب آسيا»، الأمر الذي يشكل «تهديداً للسلامة الإقليمية والوحدة الوطنية والسلام الداخلي لتركيا». وفي السياق، دعا أنقرة إلى «إجراء مداولات عاجلة مع جيرانها، بما في ذلك سورية والعراق وإيران وآذربيجان، لمناقشة السياسات المستقبلية للعقوبات التي سيتم تنفيذها، و «وجوب تطبيع علاقاتنا مع سورية وفتح السفارة التركية في دمشق».
في مسلسل تقلباته السياسية، كان أكثرها غرابة تحوله من عدو لدود لأردوغان إلى حليف قوي له. يُشار إلى أن بيرينجيك أصدر كتاباً في 2007 عنوانه «الرجعيون الصليبيون»، في إشارة إلى أردوغان المدعوم وقتها من الغرب. في 2008، اعتقل بتهمة الضلوع في ما عرف بمؤامرة «إرغينيكون» أو «الدولة العميقة» وحكم عليه بالسجن المؤبد في 2013، وانتقل إلى حليف قوي للزعيم التركي بعدما خرج من السجن في 2014، عندما قرر أردوغان العفو عن جميع السجناء في قضية «ارغينيكون» بمن فيهم العسكريون، في مسعى إلى الحصول على دعمهم في مواجهة صعود حزب الشعوب الديموقراطي وزعيمه دميرتاش. ووفقاً للكاتب والباحث التركي البارز مصطفى أكيول، فإن بيرينجيك ومن أُطلق معه من السجن اعتبروا أنهم كانوا ضحايا جماعة الداعية الإسلامي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن، الذين كانوا يسيطرون على القضاء، وأن هؤلاء هم «الرجعيون الصليبيون» وليس أردوغان وحزبه، بحسب أكيول، مضيفاً أن ذلك كان بداية اقتراب بيرينجيك من حزب أردوغان، معلناً تشكيل «جبهة وطنية مشتركة مع المحافظين الدينيين».
تبرع جماعة بيرينجيك باستخدام وتوظيف المواقف الأردوغانية المتشددة ضد الكرد من جهة والأميركيين والأوروبيين من جهة أخرى، ناهيك بالهاجس الطاغي المتمثل في قناعة متنامية بأن تركيا تتعرض لمؤامرة خارجية تهدد وجودها. هنا يدخل اللاعب الروسي على الخط. فالعقل الروسي كما التركي يطغى عليه هاجس دائم بأن الخارج يتآمر عليه. هكذا أخذ بيرينجيك يروّج لما يسمى بـ «الأوراسية» التي يدعو إليها تيار سياسي– فكري معروف في روسيا ويتزعمه المحلل السياسي والمنظر ألكساندر دوغين القريب من بوتين والدائرة الضيقة المحيطة به. يُعرف دوغين في أوساط الإنتلجنسيا الروسية بألقاب عدة مثل «راسبوتين بوتين» و «عقل بوتين» و «نبي الإمبراطورية الروسية الجديدة»، إشارةً إلى تأثر الرئيس الروسي بأفكاره، خصوصاً الأوراسية التي يمضي في أحد تفاسيره لها بأنها دعوة إلى توحيد كل أعداء وخصوم الغرب تحت زعامة روسيا.
ما سلف من أفكار ومواقف جمعت بين دوغين وبيرينجيك أنشأت بينهما علاقة تحولت صداقة شخصية. كلاهما يعتبر أن مصلحة تركيا تتمثل في الابتعاد عن أميركا وأوروبا، والتحالف في المقابل مع روسيا والصين. وفي رأي محللين أتراك، إن هذه العلاقة بين دوغين وبيرينجيك أسهمت وقتها في تحسين العلاقات الروسية– التركية التي تدهورت إثر الحادث المعروف الذي أُسقطت فيه مقاتلة روسية بصاروح أُطلق من الأراضي التركية. وفي الفترة الماضية زار دوغين تركيا أكثر من مرة، ويقال أنه التقى أردوغان شخصياً خلال إحدى زياراته.
السؤال هو: إلى متى يمكن أن تستمر هذه التحالفات الغريبة التي يرعاها أردوغان؟ ماكيافيلي تركيا يضع كل الأوراق على الطاولة. وسيحرك منها شرقاً أو غرباً تلك التي يعتقد أنها تخدم استمراره في الحكم أطول فترة ممكنة.
المصدر: الحياة
التعليقات مغلقة.