حوار مع التشكيلي الكردي بهرم حاجو

30

images

 

 

 

 

 

من إحدى قرى قامشلو الكرديّة السوريّة، حيث ولد العام 1952، مروراً ببغداد والسليمانية في كردستان العراق، ثم أوروبا (الشرقية والغربية)، وبعد أكثر من 40 سنة، يحظى بهرم حاجو بجائزة “هنري ماتيس” الفرنسية، إحدى أرفع الجوائز الفنية في العالم. تقدم أعماله، وخصوصاً الأخيرة، رصداً جوانياً خصباً لعزلة الكائن الإنساني في لحظاته الأشد ضعفاً وحميمية. مزيج من الحنان والقوة، الخفة والنقاء، يصنع عالم لوحاته الفريدة.

–      بدأتَ بتصوير الريف، القرى المنثورة أسفل خط الأفق، وانتهيت لاحقاً إلى جسد عارٍ معزول وضعيف (رجل وامرأة بالوجه نفسه). ماذا يختبئ وراء هذا التحوّل؟

يعود ذلك إلى حنيني لطفولتي، فأنا ابن قرية ديرونDiroon (ريف قامشلو). حملت جمال القرية وبساطتها في ذاكرتي، سكبت في لوحاتي تفاصيل ذلك الريف درءاً لبرد الغربة أثناء هجرتي. فبعد مدة من إقامتي في ألمانيا أواسط سبعينيات القرن الماضي، اندمجتُ مجبَراً بهذا المجتمع برفقة أشخاصٍ يختلفون عن الأوروبيين، لكني صُدمت في الحقيقة بحالة بعيدة عن عواطف الطيبة والبساطة. من ثمّ رسمت علاقة هؤلاء الأشخاص، المهاجرين مثلي، مع الأوروبيين. بعد تلك المرحلة، أخذت ريشتي منحى آخر، وهو رسم جسد الإنسان، حيث نقلت عبر لوحاتي أزمات اجتماعية نفسية وفكرية. شعرت بانقلاب جذريّ، ووجدت في هذا المنحى وجهتي.

 
–      ما مدى حضور الغريزة في مخيلتك، ولماذا تبدو شخصيات لوحاتك بلا مكان؟

للوهلة الأولى من معاينة أعمالي، يبرز البعدُ الجنسيّ، ويتحرّر المشاهِد من كلّ كبتٍ من خلال رسم أشخاص عُراة، وأنا أتفهم كلّ من يفكر ويعمل بهذه الطريقة. لكن إذا تمعنتَ في اللوحةَ جيداً لقرأتَ أشخاصها من خلال وجدانهم، (خاليّ الوفاض من الشهوة والغريزة). حين أرسم نفسي في كل لوحة أرسم تلك الحالة، بعدما أصبحت عارياً تماماً من الدفء والأمان والترابط الإنساني، فلا شيء هنا يعوّض عمّا تركته؛ حتى الزوجة التي ظننت بأنها ستكون وطني هنا خذلتني، وترافق ذلك مع مناخ تسوده قسوة حبّ (الأنا) لدى الأوروبيين الذين لا يعنيهم من حولهم شيء، لذلك ترى الأشخاص عراة لا تحميهم سوى جلودهم، ويقفون داخل مساحات بيضاء فارغة، بعيون حائرة.

 
–      تنقلت إلى أكثر من بلد. متى وكيف هربت من سوريا إلى كردستان العراق؟ ما الذي بقي في ذاكرتك؟

بعد حريق سينما عامودا (تشرين الثاني 1960) كان الوضع في مدينة قامشلو يزداد سوءاً سنة بعد سنة، لذلك قرّر والدي إرسالي إلى كردستان العراق لدراسة الهندسة المدنية لعلمه بهدوء الوضع هناك وإمكانية الدراسة في جامعة السليمانية. تمّ قبولي، مع أن هذا كان ضد رغبتي. بعد سنة من إقامتي في السليمانية ذهبت إلى أكاديمية بغداد للفنون الجميلة، لأن دراسة الهندسة كانت بمثابة عقوبة لي.
في نهاية العام 1973 بدأت المشاكل بين حزب البعث والحزب الديموقراطي الكردستاني، وعلى خلفية اغتيالات طاولت بعض الطلاب السوريين المقيمين هناك، وبعد إلقاء القبض على ابن عمي (برشنك حاجو) اضطررت للهرب والتجأت لبيت الشاعر الكردي (هجار) وبقيت مختبئاً لمدة عشرين يوماً تقريباً، وذلك بمساعدة (دارا توفيق) رئيس تحرير جريدة التآخي آنذاك و(سامي محمود) وزير الإصلاح، وتم ترتيب سفري لتشيكوسلوفاكيا (سابقاً) مع فريق ديبلوماسي إنكليزي في طائرة صغيرة إلى براغ. وكان محسن دزيي، السفير الكردي لدى الحكومة العراقية في تشكوسلوفاكيا، أمّن لي منحة دراسية، وبعد إقامتي بحوالي ثلاثة أسابيع سُحب السفير عقبَ خلافات مع الحكومة العراقية، وذلك في نهاية العام 1973، حيث هاجم الجيش العراقي الأكراد.

 
–      كيف انتقلت إلى ألمانيا؟

لم أطق البقاء في براغ، وقرّرت الهجرة إلى ألمانيا الشرقية، برلين، حيث دخلتها بجواز سفر عراقي مزوَّر مع فيزا لدخول “الدول الاشتراكية” لمدة ثلاثة أشهر، ومن برلين الشرقية تسلّلت إلى برلين الغربية عن طريق المهرّبين، وهناك صمّمت أن أحقق حلمي. لكن مع الأسف لم يتمّ قبولي في أكاديميات الفنون الجميلة، ما جعلني أدرس علم الآثار، وقد رأيته قريباً أيضاً من ميولي، وذلك من 1975 إلى 1977. من ثمّ سنحت لي الفرصة لدراسة الفنون والرياضة في جامعة “مونستر”، المدينة التي سكنت فيها حيث أكملت دراستي، وبقيت فيها حتى اليوم أعمل كفنان مستقلّ.

 
–      أي الفنانين كان له أثر حاسم على خيارك التشكيلي؟

تأثرت بالتعبيرية الألمانية. كنت أزور المتاحف ومعارض الفنانين الألمان والرواد التعبيريين، أمثال جماعة “الفارس الأزرق”: كرشنر  Kirchner ، أوتو مولر  Otto Muller ، بيتش شتاين  Peschstein، والمعاصرين مثل ماركوس لوبرتس Markus Lupertz  وبازليتس Baselitz وريتشتر  Richter، وتأثرت بمواضيعهم النقدية الإنسانية والاجتماعية والسياسية. كانوا مهمَّشين فنياً، وعانوا حياة مريرة، وكنت أشعر بأني أنتمي إلى هذه المجموعة الفنية المضطهدة.

 
–      خطوط الأجساد في لوحاتك نحيلة، تكاد تكون أقرب إلى حيّز للتحديد فقط؟ كيف تبدأ العمل على اللوحة، وهل جسد الإنسان هو جذر حكايته الوحيد؟

لا أدري كيف أعبّر عن علاقتي باللوحة، فحين أبدأ برسمها لا أختار ألواني، وعندما أشعر بأني اندمجت بموضوعها أبدأ بتحديد أشخاص بخطوط بسيطة. إن أساس موضوعي أن أجعل لون الأشخاص بلون الإنسان بعيداً من الزخرفة، وتحديدهم بخطوط رفيعة، لا بألوان زاهية. حركة خطوطي التي أعتمد عليها تعبّر عما أريد قوله في ملامح الأشخاص وما يحملونه من مشاعر. إن كلاً منّا لديه ما يخفيه وأنا أحاول دائماً أن أطرح حكاية كل شخص من خلال حركة جسده، ومن خلال تعابير وجهه ونظرة عينيه وعلاقاته مع أشخاص اللوحة الآخرين.

 
–      طرحت ثورات الربيع العربي أسئلة من كلّ نوع والتغيير الجذري بدأ. كيف يمكن للفنان أن يجد مكاناً جديراً بهذا التحوّل الفريد والقاسي؟

الحرية والديموقراطية مطلب كل إنسان حرّ، خصوصاً لأني كردي لاقى شعبه الكثير من الظلم والتهميش، وقد عايشت تلك الفترة المريرة في حياة كل كردي مثلي، ومن ثم انتقالي إلى مجتمع تسوده الديموقراطية والحرية، ما جعلني أتأثر بالثورات التي حدثت. حاولت قدر الإمكان أن ألعب، ولو دوراً بسيطاً، في المشاركة في كل نشاط يقام لمساعدة هذه التغيّرات الكبرى، وتأثري بكلّ ما يحدث واضح في لوحاتي، حيث ساد فيها اللون الأحمر أكثر، في إشارة لما يُراق في بلادي من دم بريء.

حاوره : علي جازو

عن صحيفة المدن الإلكترونية

من إحدى قرى قامشلو الكرديّة السوريّة، حيث ولد العام 1952، مروراً ببغداد والسليمانية في كردستان العراق، ثم أوروبا (الشرقية والغربية)، وبعد أكثر من 40 سنة، يحظى بهرم حاجو بجائزة “هنري ماتيس” الفرنسية، إحدى أرفع الجوائز الفنية في العالم. تقدم أعماله، وخصوصاً الأخيرة، رصداً جوانياً خصباً لعزلة الكائن الإنساني في لحظاته الأشد ضعفاً وحميمية. مزيج من الحنان والقوة، الخفة والنقاء، يصنع عالم لوحاته الفريدة. وكان لـ”المدن” حوار يختصر مراحل من مسيرته.

–      بدأتَ بتصوير الريف، القرى المنثورة أسفل خط الأفق، وانتهيت لاحقاً إلى جسد عارٍ معزول وضعيف (رجل وامرأة بالوجه نفسه). ماذا يختبئ وراء هذا التحوّل؟

يعود ذلك إلى حنيني لطفولتي، فأنا ابن قرية ديرونDiroon (ريف قامشلو). حملت جمال القرية وبساطتها في ذاكرتي، سكبت في لوحاتي تفاصيل ذلك الريف درءاً لبرد الغربة أثناء هجرتي. فبعد مدة من إقامتي في ألمانيا أواسط سبعينيات القرن الماضي، اندمجتُ مجبَراً بهذا المجتمع برفقة أشخاصٍ يختلفون عن الأوروبيين، لكني صُدمت في الحقيقة بحالة بعيدة عن عواطف الطيبة والبساطة. من ثمّ رسمت علاقة هؤلاء الأشخاص، المهاجرين مثلي، مع الأوروبيين. بعد تلك المرحلة، أخذت ريشتي منحى آخر، وهو رسم جسد الإنسان، حيث نقلت عبر لوحاتي أزمات اجتماعية نفسية وفكرية. شعرت بانقلاب جذريّ، ووجدت في هذا المنحى وجهتي.

–      ما مدى حضور الغريزة في مخيلتك، ولماذا تبدو شخصيات لوحاتك بلا مكان؟

للوهلة الأولى من معاينة أعمالي، يبرز البعدُ الجنسيّ، ويتحرّر المشاهِد من كلّ كبتٍ من خلال رسم أشخاص عُراة، وأنا أتفهم كلّ من يفكر ويعمل بهذه الطريقة. لكن إذا تمعنتَ في اللوحةَ جيداً لقرأتَ أشخاصها من خلال وجدانهم، (خاليّ الوفاض من الشهوة والغريزة). حين أرسم نفسي في كل لوحة أرسم تلك الحالة، بعدما أصبحت عارياً تماماً من الدفء والأمان والترابط الإنساني، فلا شيء هنا يعوّض عمّا تركته؛ حتى الزوجة التي ظننت بأنها ستكون وطني هنا خذلتني، وترافق ذلك مع مناخ تسوده قسوة حبّ (الأنا) لدى الأوروبيين الذين لا يعنيهم من حولهم شيء، لذلك ترى الأشخاص عراة لا تحميهم سوى جلودهم، ويقفون داخل مساحات بيضاء فارغة، بعيون حائرة.

–      تنقلت إلى أكثر من بلد. متى وكيف هربت من سوريا إلى كردستان العراق؟ ما الذي بقي في ذاكرتك؟

بعد حريق سينما عامودا (تشرين الثاني 1960) كان الوضع في مدينة قامشلو يزداد سوءاً سنة بعد سنة، لذلك قرّر والدي إرسالي إلى كردستان العراق لدراسة الهندسة المدنية لعلمه بهدوء الوضع هناك وإمكانية الدراسة في جامعة السليمانية. تمّ قبولي، مع أن هذا كان ضد رغبتي. بعد سنة من إقامتي في السليمانية ذهبت إلى أكاديمية بغداد للفنون الجميلة، لأن دراسة الهندسة كانت بمثابة عقوبة لي.
في نهاية العام 1973 بدأت المشاكل بين حزب البعث والحزب الديموقراطي الكردستاني، وعلى خلفية اغتيالات طاولت بعض الطلاب السوريين المقيمين هناك، وبعد إلقاء القبض على ابن عمي (برشنك حاجو) اضطررت للهرب والتجأت لبيت الشاعر الكردي (هجار) وبقيت مختبئاً لمدة عشرين يوماً تقريباً، وذلك بمساعدة (دارا توفيق) رئيس تحرير جريدة التآخي آنذاك و(سامي محمود) وزير الإصلاح، وتم ترتيب سفري لتشيكوسلوفاكيا (سابقاً) مع فريق ديبلوماسي إنكليزي في طائرة صغيرة إلى براغ. وكان محسن دزيي، السفير الكردي لدى الحكومة العراقية في تشكوسلوفاكيا، أمّن لي منحة دراسية، وبعد إقامتي بحوالي ثلاثة أسابيع سُحب السفير عقبَ خلافات مع الحكومة العراقية، وذلك في نهاية العام 1973، حيث هاجم الجيش العراقي الأكراد.

–      كيف انتقلت إلى ألمانيا؟

لم أطق البقاء في براغ، وقرّرت الهجرة إلى ألمانيا الشرقية، برلين، حيث دخلتها بجواز سفر عراقي مزوَّر مع فيزا لدخول “الدول الاشتراكية” لمدة ثلاثة أشهر، ومن برلين الشرقية تسلّلت إلى برلين الغربية عن طريق المهرّبين، وهناك صمّمت أن أحقق حلمي. لكن مع الأسف لم يتمّ قبولي في أكاديميات الفنون الجميلة، ما جعلني أدرس علم الآثار، وقد رأيته قريباً أيضاً من ميولي، وذلك من 1975 إلى 1977. من ثمّ سنحت لي الفرصة لدراسة الفنون والرياضة في جامعة “مونستر”، المدينة التي سكنت فيها حيث أكملت دراستي، وبقيت فيها حتى اليوم أعمل كفنان مستقلّ.

 

–      أي الفنانين كان له أثر حاسم على خيارك التشكيلي؟

تأثرت بالتعبيرية الألمانية. كنت أزور المتاحف ومعارض الفنانين الألمان والرواد التعبيريين، أمثال جماعة “الفارس الأزرق”: كرشنر  Kirchner ، أوتو مولر  Otto Muller ، بيتش شتاين  Peschstein، والمعاصرين مثل ماركوس لوبرتس Markus Lupertz  وبازليتس Baselitz وريتشتر  Richter، وتأثرت بمواضيعهم النقدية الإنسانية والاجتماعية والسياسية. كانوا مهمَّشين فنياً، وعانوا حياة مريرة، وكنت أشعر بأني أنتمي إلى هذه المجموعة الفنية المضطهدة.

–      خطوط الأجساد في لوحاتك نحيلة، تكاد تكون أقرب إلى حيّز للتحديد فقط؟ كيف تبدأ العمل على اللوحة، وهل جسد الإنسان هو جذر حكايته الوحيد؟

لا أدري كيف أعبّر عن علاقتي باللوحة، فحين أبدأ برسمها لا أختار ألواني، وعندما أشعر بأني اندمجت بموضوعها أبدأ بتحديد أشخاص بخطوط بسيطة. إن أساس موضوعي أن أجعل لون الأشخاص بلون الإنسان بعيداً من الزخرفة، وتحديدهم بخطوط رفيعة، لا بألوان زاهية. حركة خطوطي التي أعتمد عليها تعبّر عما أريد قوله في ملامح الأشخاص وما يحملونه من مشاعر. إن كلاً منّا لديه ما يخفيه وأنا أحاول دائماً أن أطرح حكاية كل شخص من خلال حركة جسده، ومن خلال تعابير وجهه ونظرة عينيه وعلاقاته مع أشخاص اللوحة الآخرين.

–      طرحت ثورات الربيع العربي أسئلة من كلّ نوع والتغيير الجذري بدأ. كيف يمكن للفنان أن يجد مكاناً جديراً بهذا التحوّل الفريد والقاسي؟

الحرية والديموقراطية مطلب كل إنسان حرّ، خصوصاً لأني كردي لاقى شعبه الكثير من الظلم والتهميش، وقد عايشت تلك الفترة المريرة في حياة كل كردي مثلي، ومن ثم انتقالي إلى مجتمع تسوده الديموقراطية والحرية، ما جعلني أتأثر بالثورات التي حدثت. حاولت قدر الإمكان أن ألعب، ولو دوراً بسيطاً، في المشاركة في كل نشاط يقام لمساعدة هذه التغيّرات الكبرى، وتأثري بكلّ ما يحدث واضح في لوحاتي، حيث ساد فيها اللون الأحمر أكثر، في إشارة لما يُراق في بلادي من دم بريء.

– See more at: http://www.almodon.com/culture/43fb1373-f4e7-4b24-b160-c05580a06287#sthash.PqSyuSs4.dpuf

 

التعليقات مغلقة.