أوراق موسكو السورية

62

فايز سارة

يكاد يكون من المتفق عليه، أن روسيا باتت صاحبة الأوراق المهمة في سوريا، بل والقوة الرئيسية في تقرير مستقبل الوضع السوري ومآلاته. ولا يحتاج هذا القول إلى كثير من جهد لتأكيده عبر دلالات سياسية وعسكرية – ميدانية، الأبرز فيها من الناحية السياسية، تعاون القوى الدولية والإقليمية مع روسيا باعتبارها ذات نفوذ وتأثير في القضية السورية، وهو أمر امتد إلى القوى السورية، التي لا تقتصر على النظام، وإنما تشمل أغلب قوى المعارضة السياسية والمسلحة، والأبرز في الدلالات العسكرية – الميدانية، لا يتمثل فقط في وجودها العسكري الجوي والبحري والبري، وفي مجال الاستخبارات وقوى الضبط الأمني، وإنما أيضا في الدور المتعدد الأبعاد الذي تقوم به قاعدة حميميم وضباطها العسكريون والأمنيون من علاقات ربط سياسي واجتماعي، وتسويات ومصالحات متعددة الأوجه بعضها مع النظام وأخرى من دونه.

وسط طغيان الحضور الروسي في القضية السورية ومحيطها، يبدو السؤال عن عوامل القوة في سياسة موسكو السورية، طبيعياً ومنطقياً وضرورياً من أجل تقدير احتمالات الدور الروسي، والأهم هو رؤية مسار التعامل مع موسكو من أجل الحل الممكن في سوريا.

أولى أوراق القوة الروسية في سوريا، تكمن في قوة الدولة الروسية، التي تعد بين الدول الكبرى، وتتمتع بقوة سياسية وعسكرية واقتصادية، تؤهلها للعب دور إقليمي دولي، خصوصا في منطقة، طالما كانت في أهداف روسيا منذ روسيا القيصرية إلى الاتحاد السوفياتي إلى الاتحاد الروسي. وتقع سوريا في قلب منطقة الاهتمام الروسي، وتدعم هذا الاهتمام عوامل تاريخية دينية وسياسية وعسكرية، تمتد عبر أكثر من مائة عام متواصلة من الإرساليات الكاثوليكية القيصرية، إلى التبشير الآيديولوجي الشيوعي بعد ثورة 1917، وصولاً إلى علاقات التسلح والدعم السياسي والاقتصادي، التي بدأت أواسط خمسينات القرن الماضي، وتالياً إلى وجود عسكري مباشر صار حاضراً منذ أواخر العام 2015.

ثاني أوراق القوة الروسية في سوريا، مبادرة روسيا للعب دور يكون بديلاً للقوى الدولية الكبرى، التي تقاعست عن لعب دور مؤثر وحاسم في القضية السورية، وعجز القوى الإقليمية عن القيام بمثل هذا الدور، وفي خلال السنوات السبع الماضية، عزفت الولايات المتحدة عن اتخاذ مواقف حاسمة وجدية حيال التطورات السورية، ومارست سياسات مترددة، دعمت جميعها استمرار تردي الوضع، وهي السياسة التي تابعتها الدول الأوروبية، ليس فقط بحكم تبعيتها لسياسة واشنطن، إنما أيضا لرغبتها في عدم تحمل النتائج، التي يمكن أن تتمخض عن انخراطها في التطورات السورية.

ولم يكن موقف الدول الإقليمية أفضل حالاً، وقد انخرطت أغلبيتها في الصراع السوري حتى آذانها، لكن وفق أجندات متناقضة، حيث وقفت إيران إلى جانب نظام الأسد، ووقفت تركيا ضده، فيما بقيت إسرائيل في موقف المراقب الحذر، غير راغبة في انتصار طرف على آخر في الصراع، وغرقت الدول العربية في خلافاتها، وركزت دعمها لجماعات مسلحة، تنتمي إلى جماعات التطرف والإرهاب أو أخواتها، وظلت في كل الأحوال، أسيرة مواقف الدول الكبرى، ولم تتخذ جميعها مواقف جدية وحاسمة ضد إرهاب الدولة الذي يمارسه نظام الأسد، وإرهاب متطرفي «داعش» و«النصرة» وأخواتهم.

ثالث أوراق القوة الروسية في سوريا، سعي موسكو إلى تجميع مختلف الأوراق الدولية والإقليمية المتناقضة في يدها، حيث أعطت لكل طرف ما يريده تحت شعار محاربة الإرهاب، ولا سيما محاربة «داعش» الذي لم يكن بمقدور أحد أن يعترض عليه أو يرفضه. فتم تنسيق روسي مع الولايات المتحدة، حظي بتأييد أوروبي، وآخر مع إسرائيل في غرفة مشتركة تجمع حميميم وتل أبيب، وأخرى تجمع العراق وإيران ونظام الأسد في بغداد، وبعد رخي وشد سياسي وعسكري واقتصادي، أعادت موسكو تعزيز علاقاتها مع تركيا، وجعلتها بوابتها لربط تشكيلات للمعارضة السورية المسلحة في مسار آستانة.

رابع الأوراق، وربما هي الأهم في عناصر القوة الروسية في سوريا، تتمثل في التغلغل الروسي في الواقع السوري. فبعد أن أيقن نظام الأسد والحلفاء الإيرانيون بضرورة الوجود والتدخل العسكري الروسي لمنع سقوط الأسد أواخر العام 2015، فإنهم قبلوا مرغمين تدخلاً روسياً في سوريا، استفادت منه موسكو في بناء منظومة خاصة لعلاقاتها السورية الداخلية شمل التدخل العميق داخل النظام ومؤسساته بما فيها المؤسستان العسكرية والأمنية، ثم امتد تأثيرها إلى «المجتمع» في مناطق سيطرتها وفي المناطق المحاصرة، وتالياً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فتمت إقامة علاقات مع شخصيات وتجمعات وهياكل اجتماعية مختلفة، عززت الوجود الروسي وتأثيراته في الواقع إلى درجة بات ذلك صريحاً وواضحاً في المستويين الداخلي والخارجي على السواء.

وسط تلك الوقائع والمعطيات، لا بد من قول، إن الحضور الروسي في القضية السورية ومحيطها، صار مؤثراً وقوياً، ولا بد من أخذه بعين الاعتبار في التعامل مع القضية السورية أياً يكن شكل التعامل سياسياً كان أو عسكرياً، وإن الروس شريك رئيسي في أي حل للقضية، وهذه صارت نقطة توافق دولي وإقليمي، لكنها ما زالت موضع أخذ ورد في الواقع السوري في الوسط الشعبي، وفي وسط المعارضة السياسية والعسكرية، التي ما زالت تحت مستوى الإدراك السياسي أو أنها أسيرة علاقات دولية وإقليمية، تنظر إلى الدور الروسي بتحفظ من بعض الزوايا، أو هي راغبة في انتزاع بعض مكاسب تدعم أجنداتها في سوريا.

ولا يحتاج إلى تأكيد قول، إن خطورة الدور الروسي في سوريا، لا تعني ضرورة الاستسلام لأطروحاته، بقدر ما تعني فهمها، واتباع طرق ناجحة في التعامل معها، لأن من المؤكد، أن ثمة فوارق جوهرية بين رؤية الحل السوري من وجهة النظر الروسية الداعية إلى الحفاظ على النظام ورأسه، ورؤية الحل السوري من مصلحة الشعب السوري الذي من أول أولوياته تغيير النظام والخلاص من رأسه، بعد كل ما سببه من كوارث وخسائر لسوريا والسوريين في السنوات السبع الماضية.

 

المصدر: الشرق الأوسط

التعليقات مغلقة.