سجين اللغة، وألغام الحدود – بهزاد حمو

41

 

 

بهزاد حاج حمو
بهزاد حمو

إلى صديقي الذي مات، دون أن أعلم .. وعندما أخبروني، صدَّقتُهم .. وكذبتُ عليه.

كُنَّا صغاراً، تأخذُنا المغامرةُ، حين نتعبُ من اللَّعبِ، إلى حدودِ دولةٍ أُخرى.. كانتْ الأسلاكُ الشائكةُ على الحدودِ التركية، تقف صارمةً مثل أبي، منهكةً ومتداعيةً مثلهُ أيضاً..
بخشوعٍ، كنا ننتظِرُ مرورَ القطارِ، على السكَّة الحديديَّة الهرِمة (قالتْ أمي، أن جارنا قُتلَ قبل عقدين هناك، بينما كان يحاول انتزاع قطع الحديد من السكَّة القديمة).. للكُرد ثأرٌ قديم مع الحدود – أقدم من القطار ومن السكَّة ذاتها. تستفزُّهم الأشواك والأكياس والذكريات العالقة على الأسلاك. للكرد أيضاً، محبَّة طارئة للحدود، جهة النفاذ الأخيرة، حيث الغرقى يتمسَّكون بالأسلاك وأعينهم مليئة بالألغام.
ويمرُّ القطار، جثة الحديد الصَّدئة، محمَّلاً بمسافرين أتراك، نراهم عبر زجاج النوافذ المغلقة جلّها، دبابيس شعر سوداء. كان صديقي يحدِّق بشبقٍ في تلك الوجوه المموَّهة، عينهُ اليمنى المفقوءة مجرَّة سقطت من جعبة الآلهة، تمتصُّ الغرباء في شهوةٍ. كان صغيراً بما فيه الكفاية، ليحملَ قلب عجوزٍ عضَّ كلبَ القرية المجاورة.. وما إن يعبرُنا القطارُ حتى ينقلب (حمديك) على ظهره كسلحفاة. (“حمديك” هو فشل الكردي في تهجئة اسم “محمَّد”، ارتجاله في تلاوة النصوص المقدَّسة، هو روحه المرميَّة في عراء الدين والقومية).
كانَ حمديك يوبِّخني حين اُشيرُ بسبابتي إلى الجهةِ الأخرى, ثم يقولُ متصنِّعاً حذرَ أمِّي المسنَّة: لا تُشر بأصابعكَ نحوَهم, التركي لا صديق له.. ثم يردفُ خافتاً صوته: سيقتلوننا بدمٍ بارد.
كانت حُجرات الجنود الأتراك المصنوعة من الصفيح، تغلي في خاصرة الجغرافية. وكندبةٍ على خدِّ أمي، تنتصبُ “تلة عامودا” أو “تل الكماليَّة”، بعد أن هرب الكرد من درس التاريخ، واختبأوا، مذعورين مدهوشين، في غرفة ملابس القادة، يتقاسمون مع الفئران فتات العتمةِ والأمكنة.. صورةٌ هائلة لـ “كمال أتاتورك”، مؤسِّس النزيف في الخارطة، مرسومة بالطبشور الأبيض على صدرِ تلك التلَّة، وعبارةٌ ترجمها لنا صديق أخي الأكبر، الذي لم يزُر تركيا يوما،ً ولسنا متأكِّدين حتَّى من اتقانه للغة التركية: “يكفيني فخراً بأنني تركي”، هكذا ترجم صديق أخي العبارة.
بالنسبة لي،ِ لم تكن تستهويني أو تستفزُّني اللغة التركية عندما كنتُ في العاشرة، وأنا أتابع الأفلام التركيَّة من خلال جهازٍ لاقطٍ للقنواتِ الأرضيَّةِ المجاورة، كان يُسمَّى “مقوّي”. ربما كنتُ أتحايل على نفسي حينها لتبرير عدم اكتراثي بهذه الأصوات “الغريبة” في اللغة التركية، بقولي: لا أزال صغيراً على تعلُّم لغة جديدة، فأنا الكردي الذي أقحموهُ عنوةً في لغةٍ هائلةٍ وحكيمةٍ، تراهُ مهاناً عارياً في ساحاتِها. ((العربيَّة دفقٌ هائل للرَّمل في فمي)).
وبعد عقدينِ تماماً، إستقررتُ في تركيا، وبتُّ غريباً على أبواب اللُّغة ذاتها، تلك التي كنَّا نبولُ عند أطرافها، كانت قبلة العهر حينها .. الحالمون يكرهون أحلامهم.. وجدتُ نفسي مسحوقاً تحت عجلات اللغة التركية، منفياً مرميَّاً مهاناً أمام لغةٍ من جديد.. ((قدرُ الكردي أن يبقى غريباً ومنفياً، دخيلاً على لغات الآخرين)).
ثمَّ أن اللغة التركية، لا تشبه ضجرنا في شيء، إنها لغةٌ “معمولةٌ” على عجلٍ، ونحن نستغرقُ الدقائقَ في تحريكِ السُّكر في الشَّاي.. إنَّها لغةُ المسافرين الذين التقوا في دربِ هجرتِهم مصادفةً تحت شجرةٍ لوزٍ عجوزة، وكان لزاماً على المهاجرينَ أن يستفسروا عن دروبِ بعضهم.. فتحدَّثوا التركيَّة. ليست لغةً جديرةً للحديثِ بها عن الأرضِ، ونحن الكُرد مسكونون بالجغرافية.!
أراقبُ، مثلاً، أحاديث الأطفال الأتراك في المول المجاور لبيتي، لا أفترضُ بتاتاً بأنهم يتحدَّثون عن ألعابهم ولا حتى عن أكياسِ الشيبس، إنها لغةٌ غير بريئة.. تذكِّرني فقط، بالصفقات.
كان الجنود الأتراك على الحدود، بالنسبة لنا، عناصرَ من الطرفة الشعبية المأخوذة من الدراما التركية، التي كانت تصوِّر الشرطة التركية دوماً في المشهد الأخير، من الفيلم. لم أكن أخشاهم، بقدر ما كانوا مثيرين لاستكشاف آلام جديدة. ((الجنود نقطة ارتكاز الأسى، هم الحيِّز الأكثر زخماً بآلام المكان)).
كان “أورهان” أحد هؤلاء العساكر، يقايضنا بصورته علبة دخانٍ كان يقدِّمها له ابن خالتي. كانت الصورة (لشاب أبيض متوسّط الحجم بلباس عسكريٍّ مموَّه وعضلات مفتولة، يمسكُ بكلتا يديه طرفي أفعى غليظة، ويعضُّ بأسنانه البيضاء وسط تلك الأفعى). كان أورهان أوربياً في نظري، وكانت تركيا “أورمبا” أيضاً.. لم أكتشف شهوة هذه الدولة تجاه أورمبا، إلا بعد سنين، حين علمتُ أن اسم الثانية أوربا وليس أورمبا.
كانت الصورةُ من ذكريات “دورة المغاوير” التي خاضها أورهان في جنوب تركيا. ((كيف للتركي أن يبيع الذاكرة بعلبةِ تبغ ؟ إنَّها العقليَّة التي استطاعت إبدال “الحنطور” “بالميترو”. في غضون سنوات فقط، بينما لا يزال أطفال عامودا، ينتظرون مرور القطار الصدئ ذاته، كل مساء)).
حمديك، صديقي ذو العين المفقوءة، فقدَ ساقه اليسرى عندما كبرَ وكبرتْ معهُ الرَّغبة في اجتياز الحدود.. حمديك الأخرق، لم يفقه شيئاً من الرسالة التي وجَّهها لنا أورهان بصورته، “الأتراك يأكلون الأفاعي”. يا لسخافةِ قدمكَ المبتورة يا صديقي وأنتَ تداوي جراحَ الجهات بشقائك.!

أما أنا، الشقي الآخر الذي قذفته اللغات، فبات عارياً من الصوت، عجوزاً على أبواب جحيم اللغة وسفارةَ بلادٍ تكره المهاجرين !
أنا المنفي الآخر، ابن الحدود ذاتها، تلك التي التهمتْ ساقكَ وحنجرتي .. ساقك المبتورة تركلُ حنجرتي بين ألغام الحدود الآن.
أيها الشرس، أنت حرٌّ أكثر مني، شبقكَ في اجتياح الهواء، كرَّس حيرتي في اختيار اللغة التي سأخاطب بها عامل المول، ليدلَّني بلباقة على ركن المنظِّفات.
حائرَيْن نحن يا صاحبي، أنت الشظيَّة الباهرةُ في كبدِ المكان، تقذفكَ الجهات وكأنَّك قطعة من ثياب مهرِّب، وأنا المسكون في برزخ الصمت، تتجاهلني اللغات وكأني جثّة كلب ميت في ليلة الميلاد، يتدفَّق الدم من فمه على الثلج، فتُغلقُ الأُمم أعينَ أطفالها .. إيه حمديك، يااا لهذه الأمم التي رسمتْنا !
كنا صغاراً، وكان التوقُ لموطنٍ آخر لعبتنا المفضَّلة .. ومن خلفِنا كانت “عامودا” تتمرّنُ على الموتِ في صمتٍ.

Top of Form

 

التعليقات مغلقة.