الشعريَّة في نصوص السوري لقمان محمود

35

480131822013_999

 

 

 

 

لم يتوقَّف الشاعر السوري لقمان محمود عن استثارة عواطف وذكريات خبيئة في أذهان القرَّاء، فمنذ ديوانه “أفراح حزينة” بدأ بكتابة تستقصي أحوالَ الوجدان ومناظرَ الشوارع في المدينة الصغيرة والمقبرة الراقدة بجوار جبل “شرمولا” في طرف المدينةِ/ الحلم، كتابَةٌ تتفحَّصُ أحوالَ المكان بتفاصيله الصغيرة المنغلقindexة المعنى والمتوارية عن أنظار الكائن العاديّ.

عواميدُ كهرباء شاهدة على صمت الشوارع في الليالي المظلمة والموحِلَة حيث الضَّجَرُ الشتائيّ المقيت يفتحُ أمام قلبه رؤى موغلة في القتامة، ليستمرَّ هذا المنحى في ديوانهِ (خطوات تستنشقُ المسافة عندما كانت لآدمَ أقدام) حيثُ الحوار الداخلي يُسلِّط الإنارة على جوانب محجوبة حتَّى بالنسبة إليه كإنسان/ شاعر يملك ما يملكه من التلميح والخيال/ الأخَّاذ المرعب أكثر الأحيان، عياداتٌ لأطباء الأسنان، عياداتٌ طينيَّة تحتفظ بأحواض سمك ملوَّن في ركن قصيٍّ من أركان ردهات الانتظار حيث الوقت ينساب خفيفا/ مُمِلَّا .

ربَّما الحنينُ هو من يحثُّ الشاعر على استحضارِ المكان الأوَّل وبدقَّة متناهية، المدينةُ الصغيرة المليئة بالتناقضات والعِلَل النفسيَّة المتراكمة مجسَّدَة على شكل لوثات عقليَّة متنقِّلَة تنفجرُ فجأة وتغدو طقسا ملازما، نمطا اعتياديَّا للحياة اليوميَّة .

ليس الشِّعرُ فَنَّا قابلا للنقد على الأرجح إنَّه بمعنى معيَّن (وثيقَةُ حياة خاصَّة لكائن أشدَّ خصوصيَّةً يُدعى الشاعر) حيواتٌ/ وثائق شبيهة بالرُّقَم الأثريَّة التي تتولَّى مهمَّة السرد العفويّ لأحداث شعورية مرَّ بها هذا الكائن في لحظات مختلفة تبعا لاختلاف الأمزجة وتضاربها من شاعرٍ إلى آخَر، مفرداتٌ تبقى تماما عالقَة في الحدِّ الفاصِل ما بين الحياة والوهم، ما بين الواقعي والمُتَخَيَّل.

بهذا الشكل يسترجعُ الشاعر لقمان محمود في ديوانه الجديد (القمرُ البعيدُ من حريّتي) والصادر لدى دار (سردم) في إقليم كردستان، هدوءَ المدينة القديمة التي لا تفارقه حتى وهو مغترب عنها منذ سنوات طويلة، حيثُ هي الصورة القديمة المخزَّنة في ذاكرته العتيقة، ولا يمكنُ لأيّ شيء أن يغيِّر معالم تلك الصورة التي تبقى حيَّة مهما توغَّلَت الشخصيَّة الشعريَّة في الابتعاد والاغتراب (ليسَت هذه هي المدينةُ ذاتها المحنَّطَة في مخيلتي) هكذا سيهتفُ لقمان محمود لو قُدِّرَ لَهُ أن يرجع للمدينة ذاتها.

إذا هو رفض الشاعر لتمزيق الصور القديمة، لاستقبال هيئة جديدة مختلفة عن الهيئة القديمة حتَّى وإن كان التغيُّرُ طفيفا في البيوت والشوارع وحتَّى الوجوه التي كانت فيما مضى أكثر حيويَّة والآن وبحكم (التسلسل المنطقي للأعمار) قد مالَت للشيخوخة، ليس تغيير الذاكرة أمرا سهلا، ليس حجرَا يُزاحُ، الذاكرةُ صخرةٌ ضاربةُ الجذور في الأعماق الشعريَّة، وربما المدينةُ التي تحدَّثَ عنها الشاعر قسطنطين بيتروف كفافيس ذات قصيدة ليست سوى (الذاكرة) أجَل، الذاكرةُ مدينةٌ تتنقَّلُ محتفظَةً بين أضلاعها وجوه الناس القديمة والشوارع والأرصفة.

إن الشاعر لقمان محمود يؤكِّدُ في كتابته حقيقة ما قالَهُ الشاعر والسينمائي ( بيير باولو بازوليني) على أنَّ الشعراء ينتمون إلى حضارة مختلفة.

جوان تتر / عن العرب اللندنية

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة.