وحشة الكرب
طه خليل
منذ سنوات عديدة أصبتُ بمرضٍ اسمه ” صيد السمك ” ولأن الجزيرة تخلو من الأنهار الكثيرة، ودجلة يراقبه العسكر التركي، فقد قررت والعديد من أصدقائي المرضى، الاكتفاء بالصيد مما توفر لدينا من بحيرات اصطناعية، وتقع في الجزيرة العديد منها، وأهمها بحيرة عجاجة جنوب الحسكة، وبحيرة حياكا على تخوم بلدة ديريك.
كنا قبل ” الثورة السورية المجيدة ” نذهب كل خميس باتجاه عجاجة، لنقضي يوما وليلة هناك، نصطاد الجري والكرب والزازان، لكل صديق من أصدقاء الصيد قصته، ومزاجه، فدياب يقضي الوقت واقفا، وهو يراقب سناراته، ومولعٌ بالشاي والتدخين، ما ان تشرق عليه شمس ليلته حتى يكون قد فرغ من تدخين عشر علب من الدخان، وشرب أكثر من أربعين كأس من الشاي، وأخوه محمد العصبي الحنون، الذي حفظ كل ما قاله الزير سالم في مسلسل ممدوح عدوان، يرمي علينا حِكَماً من كلام الزير، وتسأله عن الصيد فيستشهد بجملة قالها الزير عن الخمرة أو عن النساء، مستبدلا محمد الخمرة أو النساء بالأسماك، حذرٌ في الصيد، شغوفٌ بإيجاد الوسائل والطرق المبتدعة لاصطياد الكرب، أما جاسم أبو شيار، فما ان نصل إلى السدّ حتى يحمل أمتعته الثقيلة، ويبتعد عنا، يقرفص هناك منتظرا أسماكه وبين أصابعه لفافة تبغه، وقدح الشاي لا يبرد أمامه، أبو شيار مولعٌ بتنظيم خيوطه، فكلما يرمي خيطا، يهندسه، ويضبضبه، ويرمي الخيط التالي بمحاذاته، فتتدلى ” فلينة ” خيوطه على مستوى واحد، وبين الخيط والخيط المسافة نفسها وكما لو أنه يقيسها بالمليتمترات ، هو على أية حال حاذق بالصيد، يظل وحيدا مع سناراته حتى اليوم التالي وفي طريق العودة نتندر عليه: ” أكنت معنا أيضا .؟”
أما المريض الأكثر هلعا، و ولعا بيننا فهو أبو سونا، أبو سونا الذي ومنذ سنوات نسي كل الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وصار السمك وحده شغله الشاغل، فان كان في مجلس تراه لا ينبت ببنت شفة إلا إذا تعلّق الأمر بالصيد، وان كان في حفلة عرس يقول لجاره في الكرسي :” بربك لوكنا الان على البحيرة أليس أفضل من هذا الضجيج.”؟ أبو سونا لا يسمع كثيرا لعلّة في أذنيه، تسأله عن الوضع في قريته كرباوي مثلا، فيجيبك أن فلانا أخبره أن الصيد في السدّ الغربي أفضل من عجاجه، وتسأله عن حاله، فيجيبك على بالأمس اصطاد فلان كرباً يزن ثلاثين كيلو.
تحت خيم العزاء وما ان يفرغ المعزّون من تلاوة الفاتحة، تراه يهمس لجاره:” لوكان المتوفي يتردد على سدّ عجاجة ويصطاد السمك لما مات بهذه السرعة.” وعلى البحيرة يرمي أبو سونا أكثر من ثلاثين خيطا، ويتنقل لا ينام ولا يهدأ، وأصدقاء آخرون كثر أبو هزاع ودجوار وأبو سيبان ونجم.. كل هؤلاء أصدقاء الوحشة في الصيد الذي بدأ يقلّ ويمحل مع الأيام.
ففي ظل الإدارة الذاتية وبعد إن عصفت داعش بسدود عجاجة والخابور، لم يتبقّ لنا سوى سدود حياكا وباب الحديد ومزكفت، وقد أصدرت هيئة البيئة تعميما، لجعل سدّيْ حياكا ومزكفت كمحميات، وبالتالي منعنا من متعة الصيد هناك، وبعد شدّ وجذب مع الهيئة سمح لنا بالصيد في حياكا، شريطة أن لا يستعمل الصياد الواحد أكثر من ثلاثة سنارات، ورضينا، لأننا وفي غفلة من عيون الحراس نرمي أكثر من ذلك، إلا أن أبا سونا لم يستسغ الأمر، وجائني ذات يوم وهو مضطرب وسألني على الفور: ” أريد مقابلة صالح مسلم ” فسألته لماذا.؟ فأجاب كي يسمح لنا أن نصطاد في حياكا بحرية.”.
لعلّ أبو سونا فكر شهوراً حتى توصل إلى اسم السيد صالح مسلم، معتقداً أنه المسؤول عن السدود وعن السمك وعن عدد السنارات التي على الصياد استخدامها، هو يقينا لم يسمع باسم سياسي أو حزب في كل روجآفا، فوجد ضالته في اسم ” بافي ولات “.
في طريق عودتنا، حين نصل بلدتنا، و تمرّ بنا فتاة جميلة، يحدّق بها أبو سونا وهو يجلس جنبي في السيارة، فأنظر إليه، ليحدّق فيّ مبتسما ومشيرا للفتاة:” يا للكرب العظيم.. انها كرب.. كرب .”
وأحيانا آخذ دوره فألفت نظره إلى أخرى: ” انظر إلى الكرب أبو سوناااااا. ” فينظر وعندما لا يُعجب بها يرد علي مصحّحاً: ” لا انها جري.. جري وليست كرباً.” لان الجري لا يبدو جميلا، بفمه الواسع وشواربه الطويلة.
أبو سونا الذي لا يعرف من الدنيا سوى السمك، جاء إليّ في آخر رحلة بينما كنت أستعد للنوم، وسألني: كأني بك أضعت كرباً.؟ فسألته أي كرب تقصد.؟ فضحك وقال: ” منذ فترة أشعر بك.. أشعر كأن كرب “تك” قد غادرتك… قل لي إن كان ذلك صحيحاً.؟”
أبو سونا تلمّس وحشتي، وربما قرأ في عينيّ خيالاً عنيدا، لا يروح، خيالاً لرسولة جفّفت عني مياه البحيرات والسدود، وحوّلت أنهار ضوئها باتجاهات أخرى بعيدة، وليس لدي الجرأة كأبي سونا لأبحث عن صالح مسلم كذلك فأشكو له ما ألم بي..
ربما وحدها نجوم حياكا تعرف كم مرة أعدها إذ أنسى انني على تخوم الصيد… تلك وحشتي ووحشة الأنهار إذ تجفّ.. ليتحدث أبو سونا للمرة الأولى في حياته عن موضوع غير موضوع الصيد.
نشرت هذه المادة في العدد (65) من صحيفة “Buyerpress”
بتاريخ 15/7/2017
التعليقات مغلقة.