مسيحيو العراق بين اضطراب الإقامة واضطراب التاريخ… «داعش» ليس السابقة الأولى

31

IRAQ-UNREST-REFUGEE

 

 

 

 

 

 

 

مع النزوح الكبير لغالبية المسيحيين من الموصل، يكاد يرتسم السّفر الأخير لسيرة أتباع الديانة المسيحية في العراق. أخذ النازحون ما خفّ حمله وغادروا ديارهم إلى أقرب نقطة آمنة: كردستان. يمكن تتبع مسيرة عذابات المسيحيين تاريخياً مع الآشوريين، ذلك أنه وخلافاً لأقرانهم الكلدان الأكثر عدداً، أصحاب تجارب مريرة في النكبات التي لحقت بهم. وتجلت النزعة الكيانية الآشورية ثلاث مرات خلال السنين المئة الأخيرة، تحديداً مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 وانتهت في نكبة سميل عام 1933.

كان مفترضاً أن تكون هناك محاولة رابعة خلال السنوات العشر الماضية، لكن مشروع إقليم نينوى أخفق ولم يحظ بفرصة حتى للنقاش العام. كان المشروع يقضي بإعادة إعمار الجزء المسيحي التاريخي من سهل نينوى وهي تشمل منطقتي الحمدانية وتلكيف شمال شرقي الموصل بشكل أساس، مع اجتهادات مبالغ فيها بأن يضم قضاء الشيخان الواقع ضمن إقليم كردستان العراق عملياً وأجزاء واسعة من محافظة دهوك.

تولى تنفيذ هذا المشروع السياسي الآشوري سركيس آغاجان منذ عام 2004 حيث كان يشغل منصب نائب رئيس حكومة إقليم كردستان، وكانت الأموال التي صرفت على المشروع من الإقليم وفق اعتراف سركيس نفسه عام 2009. بعدها اختفى صاحب المشروع ليقيم في عزلة بعيداً من الإعلام في إحدى قرى «السهل المسيحي». صرفت ملايين الدولارات على الجزء المنجز من عملية استحداث الإقليم، تضمنت تشييد 105 قرى، استوعبت 20 ألف مسيحي هجروا بغداد والموصل بعد موجة تفجيرات طاولتهم منذ عام 2003.

الخلافات التي نشبت بين الآشوريين أنفسهم كانت كفيلة بوأد المشروع عدا عن معارضة بغداد، فالحساسية التاريخية التي يراها معظم الآشوريين مع الأكراد تجعل من الأخيرين نسخة مستحدثة من «داعش»، ويرون في سيطرة البيشمركة على أجزاء من الحمدانية وتلكيف «احتلالاً كردياً» وفق شعارات رفعها آشوريون في المهاجر.

كانت – وربما لا تزال – هناك فرصة للإبقاء على موطئ قدم جغرافي للمسيحيين في العراق عبر إقليم صغير وإلحاقه بكردستان لاحقاً، كما كان يخطط سركيس آغاجان، وإلا فإن أفضل عرض مقدم هو قبول العرض الفرنسي باللجوء إليها إذا أصروا على رفضهم عرض «الدولة الإسلامية» في الجزية أو الإسلام أو السيف مع ترك فرصة للمغادرة.

وإذا آثرنا رصد التجربة المسيحية في العراق من خلال الآشوريين، فذلك مرده إلى عدم انفصال الديني عن السياسي والعسكري. ويتبدى ذلك بوضوح من حركة الدوران الديموغرافي التي فرضتها عليهم نكبة الحرب العالمية الأولى وما تلتها.

مصطلح «مسيحيي الموصل» حديث بمعناه الحالي. ليس كل من نزح عنها هو موصلي تاريخياً. وليس الآشوري سليلاً لا شك فيه لامبراطورية آشور بانيبال، ولا الكلدان من رعايا نبوخذ نصّر. لكن كلاهما يعتبر نفسه كذلك.

بنى الآشوريون النساطرة رؤاهم القومية على الريف وليس المدينة. وخلال المئتي سنة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية كانوا بمثابة رأس الحربة المسيحية. كان الاستقرار في المدينة بمثابة نهاية لحلمهم الكياني. لم تكن غايتهم الأمان، بل الكيان. على عكس أقرانهم الكلدان الذين استقر قسم كبير منهم في المدن (بغداد – الموصل – البصرة). ينأى الكلدان بأنفسهم عن السياسة المتطلعة الى الخصوصية، مستفيدين من تجارب مريرة في التاريخ لم ينسوها كما في 1295 عندما تعرض المسيحيون في الجزيرة والموصل وتبريز إلى تدمير منهجي نتيجة تعاطفهم مع القائد المغولي المتمرد «بايدو» ضد امبراطور المغول أرغان وفق تفاصيل يرويها ابن العبري في مخطوطة تاريخ الأزمنة. حينها تم فرض اللباس المميز عليهم (إزار في الوسط) ودفع الجزية. وكان ذلك بداية لما سيلاقونه في ما بعد على يد تيمورلنك.

لتفكيك المسار الآشوري عن الكلداني بغض النظر عن نسطورية الأول وكاثوليكية الثاني، فإن من المفيد العودة إلى مرحلتين أساسيتين: الأولى علاقة الدولة العثمانية مع المسيحيين، والثانية الخروج الآشوري على الدولة العثمانية وتورطهم في كيان جديد: العراق.

 

المسيحيون يرفضون «المساواة»

لا يمكن التسليم بحكايات النشأة المدنية العسكرية المركبة التي رافقت الانتدابين البريطاني والفرنسي، حول مسألة العثمانية وعلاقتها بالمسيحيين. لقد تم تحنيط التاريخ العثماني عند جواسيس السلطان عبدالحميد، وسرديات وطنية مختلقة أو مجتزأة تجعل من العثماني التركي العدو الأكثر انحطاطاً في ماضي هذه «المكونات الوطنية».

بعد مخاضات عسيرة بلغت ذروتها في عهد السلطان محمود الثاني، حدث تحول جذري سيكون بمثابة الانعطافة الأكثر حدة في مسار الدولة العثمانية منذ نقلها مؤسسة الخلافة إلى اسطنبول. هذا التحول توّجه السلطان عبدالمجيد، وهو ابن محمود الثاني.

وحمل الأخير لقباً شعبياً هو «كاوور بادشاه» أي البادشاه الكافر، ليس فقط لفرضه على الموظفين المدنيين لبس الجاكيت والبنطلون والطربوش وحصره ارتداء الجبة والعمامة برجال الدين فقط، بل لتماديه في التحديث لدرجة أن عبدالمجيد نفسه خلال ولايته للعهد كان يرافق بنفسه أخته «عطيّت» وهي مرتدية الملابس الرجالية وتجمع شعرها تحت الطربوش في الثكنات العسكرية، وأقدم كذلك على جريرة فنية شنيعة عندما أمر – أي محمود الثاني – بتعليق صوره في المؤسسات الرسمية.

صدر مرسوم التنظيمات (كلخانة خط همايوني) عام 1839 في عهد السلطان مجيد وهو ابن الـ16 عاماً، كان هذا الإجراء الثوري ضربة أخيرة للعسكريين المسيطرين على الدولة بعد حل الانكشارية، وتأسيساً للبيروقراطية العثمانية التي ستواجه مشكلات لا تقل عن الفترة التي سبقتها. في 1856 صدر المرسوم الهمايوني الذي وضع العثمانية على طريق التحديث الحاد.

جرى إلغاء الجزية في الإصلاح الأخير، لكن أكثر من استاء من هذا الإصلاح كان مسيحيو ميزوبوتاميا وكردستان وأرمينيا، وبخاصة لجهة تقييد سلطة رجال الدين على الرعيّة من الناحية المالية على رغم الإبقاء على المحاكم الكنسية.

حرّم قانون الإصلاحات على البطاركة وجميع رجال الدين المسيحيين جمع الإعانات من جماعاتهم وهم سيتقاضون بدلاً من ذلك رواتب من الدولة. كما أمر بتجنيد المسيحيين في الجيش، وبها تلغى الجزية. وحين بلغ رفض هذا الإصلاح حداً أنذر بحدوث عصيانات مسيحية في الدولة، فقد أُضيف بند إلى هذه الفقرة يقول: «للمسيحيين الذين لا يرغبون في أداء الخدمة العسكرية دفع البدل النقدي». وقد استقر معظم المسيحيين على دفع البدل، وهي كانت في وقتها بمثابة جزية لكن باسم آخر وعلى 10 أقساط. لم تشفع البنود الأخرى في المساواة القانونية بين المسلمين وأهل الكتاب وتمثيلهم في مجالس الولايات في اعتبار الرعية المسيحية ذلك نصراً لها.

بعض المجموعات المسيحية وجدت طرقاً للتحايل على كل من الجزية سابقاً ودفع البدل بعد الإصلاحات وعدم إرسال شبابها إلى الجيش، كانت هذه المجموعة بشكل أساسي من النساطرة في هكاري الواقعة اليوم على الحدود بين تركيا وإيران وإقليم كردستان العراق.

خضعت السياسة العثمانية مع المسيحيين للمتغيرات في علاقاتها الدولية، وعلى هذا الأساس منح السلطان محمد الفاتح امتيازات واسعة للكنيسة الشرقية الأرثوذكسية تسكيناً لقلق عظيم كان يساوره في تحول الأرثوذكس إلى الكاثوليكية وبالتالي النفوذ الأوروبي.

في مراحل تالية عندما كان العدو الأكبر روسيا القيصرية كانت المعادلة عكسية. هذه الوقائع الموثقة تجعلنا حذرين في الاكتفاء بقراءة أحادية لمصطلح «مسيحيي الدولة العثمانية».

 

الانزياح الديموغرافي

كان من العسير على رجالات الدولة العثمانية فرض هيمنة عسكرية أمنية دائمة على معاقل الآشوريين، حيث لم تكن الفرق العسكرية منتشرة في تلك الأصقاع بهدف ردعهم. كان العالم بالنسبة الى المقيمين في البقاع الجبلية في هكاري ينحصر في التنافس العشائري بين الأكراد والآشوريين، وكلاهما كان من العصاة من ناحية الضرائب والتهرب من الجندية. وعلى عكس الشائع المبتذل، فقد كان للإدارات العثمانية فضل نسبي – لكن حازم – في تقليل وضبط الغارات العشائرية المتبادلة بين الأكراد والمسيحيين أوقات السلم الدولي، كما في حالة الأمير محمد الراوندوزي الذي دمر سهل نينوى وطورعابدين وسنجار في 1828 وما كان ليتوقف لولا تدخل الباب العالي. لكن لن تمر فترة حتى يرتدي الأمر طابعاً سياسياً أعمق مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.

كانت جبال هكاري تعج بالقبائل الآشورية المعتنقة للمسيحية النسطورية، في حياة معتمدة على الرعي أساساً ثم الزراعة. يتداخل التقسيم القبلي مع الديني، والبطريرك هو في الوقت نفسه بمثابة قاضي العشائر المتنافسة كالتياري والتخوما وجــيلو وبازي.

يروي القس إدغار ويغرام وشقيقه تفاصيل معيشية دقيقة عن حياة الآشوريين وكاريزما البطريرك مار شمعون، لدرجة أن بعض العشائر الكردية المجاورة كانت تقبل التحاكم لديه.

لا يمكن تحميل قرار البطريرك مار شمعون التاسع عشر دخول الحرب ضد العثمانيين السبب الذي أدى إلى «سفر الخروج» النهائي من معقلهم في هكاري. أساساً ما كان بالإمكان الحياد. انضم مار شمعون إلى الحرب رسمياً منتصف 1915 إلى جانب روسيا القيصرية، وخاضت قواته غارات ناجحة على القوات العثمانية المتمركزة بين هكاري ووان بمؤازرة من أرمن الطاشناق. رد الفعل كان ساحقاً حينما انسحب البلاشفة من الحرب عام 1917. كانت كارثة مفجعة على البطريرك ورعاياه الذين لم يصمدوا أمام هجمات العشائر الكردية المدعومة بقوات عثمانية. فكان قرار الانسحاب عسكرياً ومدنياً من قدشانس (مقر الكنيسة النسطورية) في هكاري إلى ضفاف بحيرة أورمية في إيران عام 1918، وهناك تسلم الانكليز الملف الآشوري من دون وجود خطة بعيدة المدى لكيفية توظيف هذه القوة العشائرية غير المنظمة. لم يطل المقام في أورمية حتى دفعتهم هجمات التركمان والأكراد إلى النزوح الجماعي جنوباً باتجاه همذان حيث قتل ثلثا العدد. وتتباين المصادر التاريخية في ذكر العدد الكلي لهذا الانزياح الديموغرافي بين 200 إلى 50 ألفاً، تم نقل الناجين إلى معسكر أنشأه البريطانيون في بلدة بعقوبة العراقية، في مكان قريب من موقع معسكر أشرف الذي يقيم فيه اليوم عناصر «مجاهدين خلق» الإيرانية.

تمكن بطرس آغا البازي وهو رئيس عشيرة آشورية صغيرة من قيادة المشروع القومي–الديني للآشوريين الناجين. ساد فراغ كارثي في قيادة هذه المجموعات الجبلية بعد تعرض البطريرك مار بنيامين شمعون للاغتيال عام 1918 على يد أبرز الزعماء الأكراد في ذلك الوقت، اسماعيل آغا سمكو. كان معــسر اللاجئين في بعقوبة يضم آلاف الآشوريين (بين 20 إلى 40 ألفاً). وتم نقلهم إلى معسكر مندان في الموصل وتشــكيل فوجين من قوات «الليفي» تحت إمرة الجيـــش البريطاني. كان هؤلاء طيلة قرون القوة المسيحية القبلية المقاتلة في تلك الأصقاع المـــمتدة حالياً بين العراق وتركيا وإيران، على عكس أقرانهم السريان أو الأرمن الذين كان تشكيلهم العسكري أقرب إلى فكرة الطليعة المقاتلة.

كان بطرس هذا أكثر وضوحاً من سلفه في السعي إلى استقلال آشوري بكيان دولة تحت الحماية البريطانية. أزاح تأثير شقيقة مار شمعون، سرما خانوم، على اللاجئين على رغم أنه كاثوليكي. من النادر أن حظيت الحركات المسيحية في تلك البقاع بتجاوز المذهبية في القيادة. وبحركة تذكّر بالقادة العسكريين الكبار، يقود بطرس آلاف المقاتلين بعد سنتين ويخترق المناطق الجبلية المملوءة بالعشائر الكردية، وينجح في تدمير بلدة بارزان، معقل آل بارزاني، ويفتح ممرين إلى هكاري وأورمية لإعادة اللاجئين إلى هناك. كان بينه وبين «إقليم آشور» خطأ بسيط كلفه غالياً: لم تكن سرمة خانوم على توافق مع بطرس آغا، واشتكت للإنكليز بأن هذا الكاثوليكي يتواصل مع الفرنسيين، وأنه أداة بيد الشيوعية. أما الإجراء الذي أجبر مقاتليه على ترك مواقعهم والعودة إلى مخيم مندان في الموصل هو رفض الانكليز الاستجابة لطلبه بإرسال العائلات لنقلهم إلى موطنهم التاريخي بذريعة أن طقس الشتاء لا يسمح بذلك.

 

التوظيف البريطاني

أخفق بطرس ونُفي ثم اغتيل في باريس. وبنفيه بدأت المرحلة الأسوأ: التوظيف البريطاني للمسألة الآشورية.

أعلن ونستون تشرشل حال تسلّمه وزارة المستعمرات عام 1921 سياسته بمقولته الشهيرة: «كل ما يحدث في الشرق الأوسط هو ثانوي بالنسبة إلى تخفيض النفقات… وإن لم يكن حكم العراق بأسعار أرخص، فإن بريطانيا ستنسحب منه مع الاحتفاظ بخط الساحل فحسب».

هذه السياسة أدت إلى إعادة البريطانيين توظيف الفرق الآشورية داخل العراق وليس لمساعدتهم على إعادتهم إلى موطنهم. استفادت منهم في تقليل اعتمادها على الجنود البريطانيين والهنود، حيث كان يكلف الجندي الآشوري ربع ما يكلفها البريطاني وأقل من نصف تكلفة جنود المستعمرات. وكان هؤلاء القوة العارية في الهجوم على ثورة الشيخ الكردي محمود الحفيد في السليمانية، وثورة العشرين في الجنوب.

طرأ تغير جذري على الرؤية البريطانية في العراق منذ مؤتمر القاهرة 1921. الاستقرار على فكرة تنصـــيب فيــصل ملكاً عبر مسرحية مس غرترود بل، ونهاية فكرة الوطن الآشوري والاقليم الكردي، وبدء تـــسليم البلاد الى نخبة قومية ساهمت بريطانيا في إظهارها والنحت فيها. كان هناك خوف من انضمام الأكراد إلى تركيا عبر ولاية الموصل. وخوف من إثارة توطين الآشوريين في كيان إداري ضمن العراق مشاعر مسلمي العراق كرداً وعرباً.

بقيت هناك قناعة لدى الآشوريين بأن بريطانيا لن تمنح العراق استقلالها وتغادر. على هذه القناعة جاء التبجح الآشوري في إطلاق النار ضمن حادثتي الموصل 1923 وكركوك 1924، وفي الأخيرة قتل ما لا يقل عن 50 تركمانياً في سوق المدينة. وبات السكان ينعتونهم بـ «الكفار» و «العملاء». وجاء الضم النهائي لولاية الموصل إلى العراق بمثابة صدمة إضافية، لتعقبه اتفاقية استقلال العراق عام 1932 ضربة لم يصحُ منها الآشوريون حتى مذبحة سميل بعد سنة بقيادة جعفر العسكري وبكر صدقي. هناك كان ضابط عراقي يجيب زائراً أجنبياً في الموصل عن سبب قتله أحد الآشوريين في الشارع: «قتلته لأنه عميل للإنكليز». وكان الى جانبه ضابطان انكليزيان يشرفان على عمل القوات العراقية. وبها انتهت المحاولة الثالثة لانتزاع كيان آشوري خلال 29 عاماً، وحدث النزوح الأخير إلى الإدارة الفرنسية في سورية.

بقي تاريخ القومية الآشورية هو ذاته تاريخ الكنيسة النسطورية حتى عام 1946 عندنا أقدم البطريرك مار ايشاي على إنهاء دور الكنيسة في المسألة الآشورية، طالباً منهم «أن يكونوا أوفياء لأوطانهم، خاضعين لقوانينها». وإيشاي اغتيل لاحقاً على يد آشوري في شيكاغو.

على رغم قلة عددهم تاريخياً، إلا أن كل تحرك لطائفة النساطرة كان يثير الفزع لدى الطوائف المســـيحية الأخرى، ذلك أن النكبات التي يقعون فيها ترتد بأثرها على كل الطوائف المسيحية. لذا، ليس غريباً أن يكون أشد المعترضين على مشروع إقليم ســـهل نينوى (المسيحي – الأقلياتي) من المسيـــحيين أنفسهم.

تضاف إليها أيضاً حمولة التاريخ المتخيلة التي تجعل من اعتمادهم على كردستان نوعاً من الإهانة لملوك آشور العظماء.

الانزياح المسيحي هذه الأيام إلى الشمال يجعلهم قريبين من الموطن التاريخي للنساطرة وفق الفهم الآشوري (هكاري). لكن ما قد يصيب الكثيرين منهم بالاختلال العقلي فعلاً هو أن يصل بهم النزوح إلى هكاري نفسها، سيكون الأتراك والأكراد في انتظارهم وهم يهيئون لهم الخيم على أنقاض قراهم التي دمرت وسلبت خلال سفر الخروج الأول عام 1917.

وتبدو في الأمر مفارقة أخرى: لو أن سركيس آغاجان أعلن عن هذا الإقليم الأشبه بـ «غيتو آمن» في الحمدانية وتلكيف تحت الحماية الكردية، لوجدت الدولة الإسلامية أدبيات غنية في تبرير تسييرها الجيوش للقضاء على هذه «الدويلة الصليبية» في أرض الإسلام.

ربما ما ينقص مسيحيي العراق اليوم هو بالضبط تلك «المغامرة الآشورية»… على أن تكون في سهل نينوى لا في سهول باريس.

 

إخفاق مشروع «ساندمان – بروس» وتأسيس المركزية في العراق

تقاطع تطور السياق السياسي البريطاني في العراق مع النكبة الآشورية عام 1933، ومن بينها تلك التجـــربة الغامضة التي حملت اسم مشروع «ساندمان – بروس» والتي ظهرت بتأثير نفوذ الهند البريطانية على العراق حــتى تاريخ انـعقاد مؤتمر القاهرة البريطاني عام 1921.

صاغ الموظف الكبير في حكومة الهند البريطانية، روبرت ساندمان، مشروعاً عام 1869 يقضي بضم مناطق قبائل البلوش إلى الإدارة البريطانية من دون الحاجة إلى نقل الجيش البريطاني، وذلك عبر تمويل النظام القبلي في بلوشستان وشراء الحاكم الأكبر ضمن كل قبيلة. ونجحت الخطة أيّما نجاح، لدرجة أن سلفه المدعو «بروس» أخذته الحماسة لتطويرها ونقلها إلى قبائل البشتون، وفشل فشلاً ذريعاً بسبب اختلاف النظام القبلي البشتوني المعتمد على نوع صارم من القيادة الجماعية (جيركا). كانت السياسة البريطانية في الشرق الأوسط برمّته تعتمد في بادئ الأمر على هذا النظام، وليس فقط في العراق على ما يذهب المؤرخ العراقي جرجيس فتح الله. وأهم الأمثلة الشريف حسين وابناه فيصل وعبدالله اعتماداً على الاحترام الذي كانوا يحظون به دينياً وسياسياً.

ما حكم على هذه التجربة (النظام القبلي) بالفشل المبكر عراقياً ثورتان: محمود حفيد الكردي في الشمال، وثورة العشرين في الجنوب واستمرار التمردات ذات الطابع القومي العشائري. إضافة إلى توازي قوة أفخاذ العشيرة الواحدة، كما في عشائر فتلة جنوب العراق التي حملت السلاح على بعضها بعضاً بسبب استمالة البريطانيين أحد زعمائها دون الآخرين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الزيبارية في كردستان. كان الهدف هو تجنيد أبناء العشائر لأغراض حفظ الأمن لتفادي نشر الجنود البريطانيين في كل البقاع. خلال هذه الفترة سيكتشف الملك فيصل أنه لا يوجد «شعب» في العراق.

كان الاعتماد البريطاني على الآشوريين يأتي ضمن نموذج «ساندمان – بروس»، ووجدوا أنسب شخص للقيام بالدور، البطريرك مار شمعون (الشهيد). وبعد مقتل الأخير اعتلى بطرس آغا زعامة عسكرية من دون ان يمتلك الكاريزما الدينية المطلوبة على غرار سلفه.

ولكن تبيّن أن تقليل التكاليف بهذه الطريقة خلق مشكلات أكبر، فمن جهة يتطلع الآشوريون إلى العودة لموطنهم في إيران وتركيا أو إقامة كيان تحت الإدارة البريطانية في العراق. كما أن الشيخ محمود الحفيد فقد ثقته كلياً بالبريطانيين على خلفية انسحابهم المفاجئ وغير المنسّق من كركوك، الأمر الذي مكّن قوات العثمانيين من أسره سنة 1918، وبات كل ما يطرحه الحفيد غير متوافق مع السياسة البريطانية، خصوصاً مسألة إعلان مملكة كردستان وتطلعه لضم كركوك حيث عين تشرشل على النفط.

بعد إخفاقهم في العودة إلى هكاري في مغامرة بطرس آغا، سعى الآشوريون إلى انتزاع وعد أشبه بوعد بلفور، وبات تحريض الصحف القومية خلال العشرينات ضدهم قائماً على مزاعم بوجود «وعد بلفور آشوري» لتقسيم العراق.

بعد تبين عدم جدوى مشروع «ساندمان- بروس» بسبب الحمولة القومية والطائفية الحادة في العراق والتعقيد القبلي، تم الانتقال منذ مؤتمر القاهرة إلى الاعتماد على بناء السلطة في المدن، ومعاقبة من يتمرد عليها في الأرياف. استدعى ذلك تشكيل جيش مركزي عراقي قادر على العقاب، فيما اعتمد البريطانيون بشكل شبه كلي على القوة الجوية.

ويعود الفضل للآشوريين في إثبات الجيش العراقي الهزيل كفاءته في مذبحة سميل، وتم تجريبه بنجاح فيهم خلال مذبحة سميل على يد ضباط كانوا يخدمون بإخلاص في الجيش العثماني قبل سنوات قليلة. ومنذ ذلك الحين لقي قانون التجنيد الإجباري استجابة شعبية في أوساط العرب لما حققته المجزرة من تلبية لرغبات سكانية واسعة في «المدن القومية» الناشئة، كما في الموصل وبغداد.

حسين جمو / عن الحياة

التعليقات مغلقة.