سكان بلاد النهرين صنعوا العود ليترنم بأحزانهم
Buyerpress
جاءت تسمية العود من اللغة العربية، وهو كل خشبة، دقيقة كانت أو غليظة، ورطبة أو يابسة، وللعرب دور كبير في تطوير آلة العود. ورجح الباحثون أن أقدم دلائل أثرية تاريخية لآلة العود تعود إلى 5000 عام، حيث وجدوا أن أقدم أثر يدل على آلة العود، يقع في شمال سوريا وذلك من خلال نقوش حجرية تمثل نساء يعزفن على آلة العود. واشتهر العود في التاريخ القديم والمعاصر وقد أبدع العديد من الصناع والحرفيين في صنع آلة العود ومنهم الدمشقي والبغدادي والمصري وغيرهم.
من خلال دراسة مقارنة لمجموعة من آثار العود التي اكتشفت في المواقع الأثرية المختلفة ثبت أن أول ظهور لآلة العود كان في بلاد ما بين النهرين و(الجزيرة السورية) وذلك في العصر الأكادي. كما ظهر العود في مصر في عهد المملكة الحديثة حوالي (1580 – 1090 ق.م) بعد أن دخلها من بلاد الشام، وظهر العود في فارس لأول مرة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد.
ويمتاز العود الأول بصغر صندوقه وطول رقبته وكان العود الآلة المفضلة لدى الناس في عصر البابليين (1950 – 1530 ق.م) واستمرت هيئته على شكل الكمثرى، وكان صغير الحجم حتى العصور المتأخرة، وكان في البداية خاليا من المفاتيح وبدأ بوتر واحد ثم بوترين فثلاثة وأربعة حتى أضاف إليه زرياب الوتر الخامس.
وقد كانت طريقة مسك العازف للعود تختلف عن الطريقة الحالية فقد كان يمسك بصورة مائلة إلى الأعلى وفي العصر الهيلينستي أصبح العود يمسك بصورة مائلة إلى الأسفل.
ويعتبر العود من أهم الآلات الشرقية والعربية على الإطلاق فهو كما قيل فيه “سلطان الآلات ومجلب المسرات” ويكفي أن ننوه بتفوقه وسيطرته على جميع الآلات الشرقية عموما والعربية خصوصا، حتى أنه تخطى الأمم الشرقية وانتقل إلى الأندلس بانتقال العرب إليها وتعداها إلى البلدان الأوروبية، وانتقل اسمه معه ولازمه في كل مراحل تطوره، وبقي يطلق عليه في الإنكليزية اسم لوت.
وقد غزا العود قصور الملوك والأمراء في كل من ألمانيا وإيطاليا وإنكلترا وفرنسا وإسبانيا بعد أن أضافوا إليه الدساتين التي يخلو منها العود الشرقي في الوقت الحالي وقد قام المؤلفون الموسيقيون بوضع قطع موسيقية لآلة العود وتم توثيقها طبعها في إيطاليا لأول مرة في عام 1507م وفي إنكلترا عام 1574م، وكان من جملة الموسيقيين الذين وضعوا قطعا للعود جان سيبستيان باخ وهاندل، وقد اختفى العود من التخت الموسيقي الأوروبي بعد انتشار القيتارة والبيانو، وهناك مشاهد أثرية كثيرة جدا للعود في مختلف البلدان الأوروبية تعود لفترات مختلفة.
ويعود تاريخ صناعة آلة العود العربي إلى القرن السادس الميلادي عندما احتك العرب بالفرس فأخذوا عنهم هذه الصناعة التي أبدعوا فيها وطوروها، حتى أصبح العود الآلة الأولى في التخت الموسيقي العربي متبوّئا مكانة كبيرة ليصبح سلطان الآلات العربية على الإطلاق حتى يومنا هذا، والتاريخ الحضاري الموسيقي العربي يشهد لأسماء كان لها الفضل في تطوير وتحسين أدائه وضبط مقاييسه فنجد على رأسهم كبير عازفي آلة العود زلزل منصور مطوّر آلة العود والذي أسماه الشبوط وزرياب الذي اهتم بالجانب الصوتي لآلة العود بحيث أحدث العديد من التعديلات على شكل آلة العود وذلك باستبدال وجه آلة العود الموجود في زمانه من الجلد بالخشب الرقيق، بالإضافة إلى أنه زاد بالأندلس في أوتار عوده وترا خامسا ابتكارا منه برفقة صديقه بن نعيمة حيث إذ لا يزال العودُ بأربعة أوتار على الصنعة القديمة، حتى زاد زرياب عليها وتراً آخر متوسطاً، فاكتسب به عوده ألطَفَ معنى وأكمل فائدة.
وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر، بدلا من مرهف الخشب، كما نجد الفيلسوف الكبير الكردي أبونصر الفارابي (874- 950م) سيد صناع آلة العود نظرا للدراسات والأبحاث التي قام بها وله العديد من المؤلفات تشهد له بذلك منها “مؤلف الموسيقى الكبير”، والفيلسوف أبويوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (805- 873م) الذي ترجم العديد من المؤلفات اليونانية إلى العربية وألف الكثير من الكتب نذكر منها “رسالة في الموسيقى” وقد أفاض الكندي في دراسة آلة العود وتقنينها وخلق نظما وطرقا جديدة للعزف على هذه الآلة وضبط أصواتها وأماكن دساتينها.
وفي هذا الإطار، أكد محمد الماجري، باحث ومؤلف موسيقي بالمعهد العالي للموسيقى العربية بتونس، أن العود آلة ضرورية في التخت العربي لما لها من مكانة خاصة عند الملحنين، والاستغناء عنها من رابع المستحيلات، وذلك يرجع لسهولة العزف عليها ووضوح الأصوات النابعة منها، بالإضافة إلى أهمية المساحة الصوتية التي تتمتّع بها، بصرف النظر عن العلاقة الحسية الخاصة بين العازف وبين الآلة من حيث طريقة تناوله للآلة، فالموسيقار يحتضن الآلة كما يحتضن الأب ابنه.
وأضاف أن “نوعية هذه الآلة وطبيعة هندستها من الأمور المؤهلة لموسيقى الحجرة، ومصاحبة الغناء من خلال تحليل المؤلفات والمقطوعات الموسيقية تعكس لنا أهمية الآلة، فهي تساعد في بناء اللحن وتشكيل معظم المعالم لعناصر الميلودي والإيقاع اللحني الذي يؤديه العازف”.
وتابع الماجري “الاعتماد على الأوضاع المختلفة وعدم الاكتفاء بالعزف يكونان في غالبية الأوتار مطلقة، وذلك من أجل إثراء الإمكانيات الصوتية للعود من حيث التحكّم في الألوان المختلفة، بقصد التنوّع في الأداء لإدخال عنصر التعبير، لإجادة جميع إمكانيات النبرات، والتعبير الذي يعتمد على استعمال الريشة بطريقة التناوب، أو ما يُسمى المسافة الصوتية التي تفصل بين الدرجات التي تُسمى بالريشة التركية التي تشبه إلى حد بعيد أسلوب عازفي قيتارة الجاز، وهذه الطريقة تمكّن العازف من تجنّب تقطيع الجمل التي نجدها في المدارس العربية التي تعتمد على القفز غير المبرر بين الأوتار، وبهذه الطريقة يكون العازف قد استفاد من الجملة اللحنية لآلة العود، وهذا من خلال التقنيات العالية المقامة على دراسة مفصلة للعقبات التي يواجهها الطالب المبتدئ، حيث لا يترك مجالا للخطأ في اختيار القضية المناسبة للأداء بشكل مناسب”.
وأشار إلى أن “العود من الآلات الوترية التي عرفها قدماء المصريين منذ ثلاثة آلاف سنة، مع هذا تضاربت الأقاويل حول موطنها الأصلي، فهناك مَنْ يؤكد أن آلة العود انتقلت إلى أوروبا من بلاد الشرق لما احتلته مكانة عازفيها عند الحكام العرب، حيث نقلت إلى أوروبا بعد فتح العرب لبلاد الأندلس، هذا قبل رحلتها إلى أوروبا إبان الحروب الصليبية، وأدخلت على آلة العود الكثير من التعديلات لكي تتناسب مع الذوق الأوروبي، وكانت لهذه الآلة طفرة موسيقية حيث كان لها الفضل في تدوين الموسيقى، وازدهر العود في القرون الوسطى بأوروبا، ولا سيما في عصر النهضة الذي أطلق عليه العصر الذهبي للعود.
ومع بداية القرن العشرين بدأ الازدهار الحقيقي والمعاصر لآلة العود، وخاصة بعد إنشاء معهد الموسيقى العربية عام 1923 ليثري الحياة الفنية في مصر والعالم العربي بفضل فنانين دارسين للآلات الموسيقية كرياض السنباطي، ومحمد القصبجي، وأمين المهدي، ومحمد عبدالوهاب، وعبدالفتاح صبري، وهم روّاد المدرسة القديمة، وانتقلت آلة العود خلال المدرسة الحديثة من قالب التطريب البحتي إلى القالب الوضعي والتعبيري وتطبيق التقنيات الغربية العالمية، ومن روّاد هذه المدرسة فريد الأطرش، وعمار الشريعي، وعبدالرب إدريس، وغيرهم من الملحنين الذين جددوا وأثروا العزف والتأليف بواسطة آلة العود”.
وأوضح إدوار شمعون، الملحن والعازف السوري، أن أهم المعايير التي يجب اتباعها في صناعة العود هي المعيار الصوتي والمعيار الميكانيكي، هذا بالإضافة إلى مدى تأثير الصانع للآلة إذا تمّ العزف عليها، مع مراعاة القواعد الهندسية لتصميم الإطار الخارجي للآلة.
وأكد أن اختلاف كل عود عن الآخر له فائدة من الثراء الفني مثل علاقة التشابه بين العود المصري واللبناني، فطول الوتر فيهما 20.5 سم مما يعطي نوعا من الدفء للحن الصادر، بالإضافة إلى تشابه العود التركي والعراقي، ولا سيما أن أطول وتر فيهما 19 سم تقريبا.
ويُعدّ عود وديع الصافي ثامن عود متطوّر، بعد إجراء عدة تطورات، أهمها نقل مربط الأوتار من مكانه الحالي على وجه العود إلى آخره بطريقة تتسع إلى وضع خمسة أزواج من الأوتار، مع الإبقاء على الحجم الأصلي، مع حفر نصفي دائرة على جانبي العود بشكل يمكن القوس من العزف على كل وتر فيه مع إضاءة وجه العود الخشبي ليوازي الانحناء النصف دائري، وجعل مجمل الأوتار أقرب ما يمكن من وجه العود وإضفاء اللمسات التي تستعمل في العزف على أوتار العود المبتكرة مع استعمال الريشة والقوس، وأضاف هذا الأسلوب الجديد سهولة في العزف وعذوبة في اللحن.
يعتبر العود آلة وترية كمثرية الشكل تحتوي على 11 أو 13 وترا مجمعة في 5 أو 6 مسارات، ويغطي مجاله الصوتي حوالي الأوكتافين ونصف الأوكتاف -اسم يطلق على ثامن درجة في سلم الموسيقى أو المقام- وغالبا ما يستعمل في الموسيقات العربية والفارسية واليونانية والتركية واليهودية والأذربيجانية والأرمينية والشمال أفريقية والإسبانية الأندلسية والصومالية وموسيقى الشرق الأوسط.
ويتشابه تركيب آلة العود مع آلة اللوت، فكل من آلتي العود واللوت الأوروبي انحدرا من أصل واحد واختلف كل منهما وفقا لعادات وتقاليد المجتمعات. ويعتقد أن أصلهما هو آلة الباربات. ويمكن تمييز العود عن آلة اللوت بسهولة من خلال قلة النقوش الشبكية فيه وصغر تقويرته، إلى جانب اللوت فإنه يُرجَّح أيضا أن للعود والقيتارة أصولا مشتركة أيضا.
كما أن آلة اللوت تشبه في صوتها بالإضافة إلى تصميمها، إلى حدّ كبير آلة العود، علما وأن هذه الآلة شهدت عصرا ذهبيا في أوروبا خلال عصر النهضة، ويرجح أنها دخلت إلى أوروبا بفضل العرب ولاقت اهتمام الكثير من المؤلفين الذين لم يترددوا في تخصيص أعمال منفردة أو مرافقة من الأوركسترا لهذه الآلة.
ويعتقد أن أقدم عود سليم حتى الآن يوجد في مدينة بروكسل ببلجيكا، في متحف الآلات الموسيقية. وتبرز الأدبيات الموسيقية الشرقية كلها مؤكدة على استخدام نوع أو أكثر من آلات العود.
ويعتبر العود الآلة الرئيسية في التخت الموسيقي الشرقي في التاريخ الحديث، فهناك أكثر من دولة عربية تزعم تفوقها في صناعة العود مثل العاصمة العراقية بغداد، ففيها أكثر من حرفي يقوم بصنعها، وبذلك غدا العود العراقي ذا سمعة عالمية جعلت كبار الملحنين والمطربين في العالم العربي يفضلونه على غيره.
المصدر: العرب اللندنية
التعليقات مغلقة.